بالأقلام تارةً، وبالعضلات تارةً أُخرى، يحاول المهاجرون، ليس في إيطاليا فقط، بل في كلّ البلدان الغربية، العثور على موطئ قدم لهم في مجتمع يعيشون على أطرافه القصية، وقلّما تحين لهم الفرصة لمقاربة متوازنة، لحوار مستديم، أو لعلاقات تتّسم بالاحترام المتبادَل. وإذا تسنّى لهم ذلك، فلا يخلو الأمر من انتهاك غير مباشر لثقافة الآخر، أو في أفضل الحالات، تذكيرهم بصلافة مقيتة بأنهم - على الأقل - يتمكّنون هنا من تناول ثلاث وجبات يومياً ويعيشون في مساكن تليق بالبشر.
كتب روبرتو سافيانو، صاحب رواية "غومورّا" (نسبة إلى عَمُورة، القرية التي خسفها الله بسبب مفاسد أهلها وفق ما جاء في النصوص الدينية)، عقب فوز إيطاليا بالميدالية الذهبية في سباق التتابُع 100 متر أربع مرّات بأولمبياد طوكيو الأخير، على صفحته في فيسبوك: "هذه إيطاليا الجديدة، فلتحيا! فعل ذلك أيضاً الكثير من المهاجرين، وكأنّهم حصلوا على نقطة لصالحهم في العراك - من طرفِ واحد غالباً - مع اليمين المتشدّد أو أولئك الذين يساندونهم باللجوء إلى العنف الجسدي والشفهي على حد سواء".
صورةٌ قلبت الموازين فجأةً أبطالُها أربعة عدّائين، اثنان منهم أجانب: لامونت مارسيل جاكوبس، مِن أُمّ إيطالية وأب أفروأميركي، وإسيوزا فوستين ديزالو، مِن مواليد عام 1994 في كازال ماجّوري بمحافظة كريمونا، قامت والدته فيرونيكا، وهي من أصول نيجيرية، بتربيته. بينما كان فاوستو، كما يسمّونه هنا، ينطلق كالريح، تابعت الأمُّ السباق في بارما، مع العائلة التي تعمل لديها. حاولَت القناة الأولى الإيطالية الاتصال بها للاحتفاء بابنها، إلّا أنها لم تشأ أن تترك السيّدة المسنّة التي تعتني بها حتى لبضع دقائق.
تُفاخِر الأحزاب اليسارية بصواب رؤيتها حول اللاجئين
رحّبت إيطاليا بهذا الاكتشاف الذي ينبئ عن "اندماج خلّاق" ومجتمع "متعدّد الأعراق"، وتفاخَرَت الأحزاب اليسارية برؤيتها الصائبة، كونها المساند والعضد للمهاجرين الذين ما زالوا يصلون إلى الشواطئ الإيطالية بقوارب ملأ ضحاياها قيعان البحر الأبيض المتوسّط. في هذه الأثناء، تفاوتت التعليقات بين مؤيّد ومعارض لهذا الواقع الجديد أو لفكرة "الإيطالي الأسود"، وهو أمرٌ ليس بجديد في الحقيقة، إنّما تعود بوادره إلى بدايات العولمة في التسعينيات من القرن الماضي، حيث بدأت الفورة الكبيرة في انتقال الأشخاص والبضائع بين مختلف العوالم.
مِن جهة أُخرى، سالت دموع كثيرة أثناء استلام الميداليات، مثل سيفان حسن، وهي هولندية من أصل إثيوبي حازت ميدالية ذهبية في سباق الخمسة آلاف متر، وجيمس تشيينجيك من جنوب السودان إثر سقوطه خلال سباق 800 متر. اشترك جيمس في الألعاب ضمن بعثة اللاجئين، وهي بعثة بلا نشيد وطني وبلا علم، عدد المشاركين فيها 29، 11 امرأة و18 رجلا، تسعة منهم لاجئون سوريّون، أبرزهم السبّاحة يسرى مارديني، سفيرة المفوّض السامي لشؤون اللاجئين. أَجبرت الحرب في سورية عائلة مارديني على الفرار من دمشق، حيث اضطرّت لعبور سبع دول مختلفة بشكل غير قانوني قبل وصولها إلى ألمانيا والمنافسة في دورة الألعاب الأوليمبية في ريو دي جانيرو قبل خمس سنوات. جانب آخر من المأساة السورية المنسية.
دموع حنين أكثر ممّا هي دموع فرح لأُناس أُجبروا على ترك أوطانهم ووجدوا أنفسهم تحت ظلّ علم ليس علمهم ونشيد غالباً لا يفقهون كلماته. مع ذلك، فازوا، بإصرارهم وإرادتهم الحديدية، مدركين أنَّ هناك وطنا سيعودون إليه عاجلاً أم آجلاً. في الصور التي نشرتها الصحف المحلية والعالمية، يوجد كلُّ شيء. ثمّة آلاف القصص والثقافات المختلفة وحياة العائلات الماضية والمستقبلية التي تتقاطع وتختلط مرّةً أُخرى حتى تجد شيئًاً يشبه كلمة "وطن". إنها أفضل إجابة ممكنة لأولئك الذين ليس لديهم ما يكفي من الخيال ليتصوّروا مجتمعاً متعدّد الأعراق والثقافات، وهو ما تتوخّاه الأغلبية. إيطاليا الوحيدة الممكنة والموجودة بالفعل.
لم يعتد الإيطاليون مناقشة القضايا المشتركة بين الثقافات
في لقطة أُخرى، مهاجر يقرأ فصلاً من "الجحيم" بلغته المحلّية أمام ضريح دانتي أليغييري في رافينّا على البحر الأدرياتيكي. كان هذا سباقاً آخر، تحدّياً قَبِلهُ الكاتب والصحافي السنغالي - الإيطالي بَبْ خوما، مدركاً الصعوبات العديدة التي سيتعيّن عليه تجاوزها لترجمة النصّ إلى لغة الولوف، اللغة الوطنية في السنغال وفي أجزاء من موريتانيا وغامبيا ومالي وغينيا بيساو.
تابع الجمهور الإيطالي، غير المعتاد على النقاشات المتعلّقة بالقضايا المشتركة بين الثقافات، بفضول وشغف هذا الأفريقي القادم من داكار وهو يتلو أبيات دانتي بلغته الأصلية. كان سؤال الصحافيّين حول مقدرة لغة هجينة مطعَّمة بالعربية والفرنسية على التعبير عن أفكار شاعرهم الكبير التي تعصى عليهم أنفسهم، دون أن يتبادر إلى ذهنهم أن دانتي ذاته كتب "الكوميديا الإلهية" باللهجة السائدة آنذاك، أو السوقية Volgare، التي فتحت الباب لميلاد اللغة الإيطالية الحديثة، في خليط من العامية واللاتينية.
بعد كلّ شيء كان بالنسبة إلى بَبْ خوما التحدّي المتكرّر والجديد دائماً المتمثّل في مواجهة نفسه مع الآخرين، وهي الطريقة الوحيدة، كما فعل مارسيل جاكوبس وإسيوزا ديزالو، ليبقى على تماس مستمرّ مع محيطه. بائع متجوّل في البداية، الفوكومبرا الشهير، Vucumprà وهو مصطلح جديد انتشر في إيطاليا بدءاً من النصف الثاني من الثمانينيات للإشارة، بطريقة ساخرة أو ازدرائية أو حتى عنصرية، إلى الباعة المتجوّلين من أصل أفريقي، حيث تعلَّم اللغة الإيطالية قراءةً وكتابةً أثناء الليالي التي كان يقضيها متشرّداً على شواطئ البحر أو في الحدائق ومحطّات القطارات.
جاءت النقلة النوعية عندما نشر روايته الأولى "أنا بائع الفيلة" التي كتبها بالتعاوُن مع الصحافي الإيطالي أوريستِهْ بيفيتّا، إلّا أنه، كما يقول كوصّي كوملا-إيبري، وهو طبيب وكاتب من توغو في أفريقيا الغربية، ما زلنا نشكّل "الكائنَ المختلف بصرياً" بسبب لون بشرتنا، على مبدأ "المختلف جسدياً"، وهي تسمية بدأت الصحف تطلقها على ذوي العاهات للتخفيف من وقع كلمة "مُقعد" أو "مُعاق".
صورتان شكّلتا الإطار الذي ستكون عليه إيطاليا في المستقبل، وما سيترتّب عليه شكل علاقات المهاجرين مع أوطانهم، فالبيئة مواتية، والرؤيا لم تعُد غامضة، بل أوضح بكثير ممّا سبق: لن تكون بعد الآن وطناً على مقاس أحد، بل على مقاسات الجميع وبكلّ المساواة الممكنة. الانتصار لا بدّ أن يكون له تبعات، وهم فازوا، وما رأيناه في كلتا الحالتين لم يكن مجرَّد لقطات عابرة.
* كاتب سوري مقيم في ميلانو