روايات السفر عبر الزمن نادرة في الأدب العربي الحديث، مع أن هذا النوع من أدب الخيال العلمي واسع الانتشار في الآداب المعاصرة الأخرى. وقد التفت بعض المحللين إلى هذه الندرة وحاولوا تفسيرها، ولكن أهم ما لاحظه واحد من أكثرهم دقة ومعرفة، مايكل كوبرسون، هو أن أغلب روايات السفر عبر الزمن العربية تحصر تجوالها في الماضي فقط، وأن القليل منها حاول تصوّر عالم المستقبل.
لهذا الالتفات إلى الوراء، حتى عندما يكون الخيال هو المحرّك، أسباب ترتبط بالمعطيات الثقافية والدينية والتاريخية للثقافة العربية المعاصرة التي تنزع عموماً، خاصة في شقّها الديني، للنظر إلى استعادة ماضي الإسلام الذهبي على أنه الهدف المرجو من أي مشروع مستقبلي. وهناك أيضاً ضعف الثقافة التكنولوجية وفقر اللغة العربية بالمفردات المستقبلية، مما يجعل أي مشروع كتابة للخيال العلمي الذي يستشف الآتي من الأيام صعباً. مع ذلك، لم تمنع هذه المثبطات كلها من ظهور بعض الروايات المبتكرة والذكية، التي وإن حصرت سفرها عبر الزمن في الماضي، تمكّنت من إيصال رسائل رائعة عن حالة المجتمع ونظرته لتاريخه وواقعه.
واحدة من أكثر هذه الروايات إمتاعاً وجمالاً وطموحاً هي رواية "رحلات الطرشجي الحلوجي" (1991) للروائي المصري الراحل خيري شلبي (1932 - 2011) أحد أهم رواد موجة الواقعية الجديدة في الرواية المصرية. تتعامل هذه الحكاية الهزلية والساخرة، والمتشائمة في نهاية المطاف، مع السفر عبر الزمن باستخفاف مصطنع يخفي وراءه ألماً وتحسّراً وربما بعضاً من أمل وكثير من الحب.
يحتفي خيري شلبي بتاريخ المكان وتاريخ الناس سواسية
فالراوي، ابن شلبي (أي الكاتب نفسه)، يتأرجح عبر الزمن الماضي بلا حسيب ولا رقيب، ولكن دون أن يترك القاهرة الإسلامية التي تشكّل أرضية غالبية أعماله الروائية الأخرى. الهدف الظاهري من تطواحه عبر الزمن هو الوصول إلى طاولة الخليفة الفاطمي المعز لدين الله، الذي دعا ابن شلبي للاحتفال بأول شهر رمضان بعد تأسيس العاصمة الجديدة القاهرة، أي عام 972 م. لكن ابن شلبي يفشل في الوصول إلى مبتغاه وينتهي به الأمر إلى قضاء معظم وقت الرواية في التنقل بين السنوات المضطربة في منتصف القرن الرابع عشر من دون سيطرة واضحة له على ترحاله. وهو في هذه الرحلات ينخرط بشكل مباشر في صراعات الخلافة على السلطنة بعد وفاة السلطان الناصر محمد (1341). تنتهي الرواية بمشكلة عويصة؛ إذ يلقى القبض على ابن شلبي ويودع في السجن بانتظار إعدامه لتآمره على السلطان عام 1343، ولكنه ينجو بالهرب عائداً إلى عصره، ليكتشف أنه هبط في المستقبل في عام 2077.
يحتفظ ابن شلبي بمسافة من الأحداث التاريخية التي يشهدها طوال سفره عبر الزمن، رغم أنه يقترب كثيرًا من التأثير عليها بحكم تعامله مع أصحاب السلطة الذين يستشيرونه في ما يفعلون (ولو أننا لا نعرف فيما لو كانوا يدركون أن هذا الرجل آت من المستقبل). ابن شلبي أيضًا الذي يسافر في الماضي فقط، باستثناء المشهد الأخير، يغلق السرد بشكل محير من دون أي إشارة إلى المكان الذي هبط فيه الراوي بعد الانعكاس في اتجاهه الزمني. كما أنه يتجاهل الفترة العثمانية تمامًا، ربما بسبب محدودية مصادره، وربما أيضًا لأن العثمانيين ما زالوا أقرب إلى غزاة أجانب في المخيلة الوطنية المصرية على عكس المماليك الذين استوعبوا تماماً كحكام محليين.
لكن هوس ابن شلبي بماضٍ محصور مكانيًا وتاريخيًا له دافع أعمق. فهو في الواقع في مهمة إنقاذ هدفها غربلة التاريخ الوطني بأكمله من أجل استعادة الشخصية الوطنية المصرية الأصيلة. وهو لهذا الغرض يستعرض عددًا كبيرًا من الشخصيات الثانوية التي تمثل مختلف مناحي الحياة في المدينة، خاصة الطبقات الهامشية والمهملة، ويجعلهم يتحدثون أو يشرحون المواقف المحرجة التي يصطدم بها ابن شلبي من خلال الفهلوية والتنكيت. وهم بذلك يجسدون الشخصية المصرية الخالدة المعروفة بالطيبة والانفتاح والفكاهة والتسامح. هذا هو أسلوب خيري شلبي في مواجهة التعصّب والدوغماتية والفوضى التي يرى أنها تفترس أصالة مصر المعاصرة.
يشير إلى العناصر التي باتت تفترس أصالة مصر المعاصرة
يلتقي ابن شلبي أيضاً خلال ترحاله عبر الزمن بعدد من الشخصيات المهمة في التاريخ القاهري، مثل المؤرخين ابن عبد الحكم من القرن الثامن، والمقريزي وابن تغري البردي من القرن الخامس عشر، والمستشرق ستانلي لين بول من القرن التاسع عشر، ونجيب محفوظ وغيرهم. هذه الشخصيات التاريخية الشهيرة تظهر لتساعد البطل في تقلباته عبر الزمن في فضاء القاهرة. كما أنها توفر له السند المعرفي اللازم لتوطيد سرده في سياقاته التاريخية الصحيحة. وهي جميعها تؤدي أدوارها بجدارة.
ولكن المقريزي يتميز عنهم جميعاً بمرّات ظهوره والاحترام الكبير الذي يبديه الراوي تجاهه وبما يسديه له من ملاحظات. ففي حين أن الآخرين يظهرون لإعلام بطل الرواية عن حدث أو شخصية تاريخية، فإن المقريزي، صاحب الكتاب الطبوغرافي الشهير "الخطط" يخبره عن المكان وتاريخه وتغيراته عبر الزمن. وهو يظهر دوماً مشغولاً بتدقيق المعلومات المكانية عن القاهرة بغض النظر عن الظروف المحيطة. فعندما يلتقي به ابن شلبي للمرة الأولى، يظهر المقريزي، وهو رجل عجوز له هيبة العالم، محاطًا بجنود يدفعونه. لكنه يظل مع ذلك مشغولاً بتسجيل التغييرات في مظاهر المدينة حوله. وعندما يسأله ابن شلبي عما إذا كان بحاجة إلى أي مساعدة، لا يطلب المقريزي سوى مزيد من المعلومات حول المكان الذي كانوا يقفون فيه. وفي لقاء آخر، عندما شرح ابن شلبي للمقريزي ما حدث لموقع خان الخليلي بعد زمانه، تنهّد المقريزي وقال: "لم يبق إلا الاسم... آه يا مصر كم تحفظ ذاكرتك من أسماء".
تلخص هذه العبارة القصيرة مكانة المقريزي في الوعي المصري المعاصر كصاحب أوسع وأشمل وأعمق كتاب عن تاريخ مصر القروسطي، "الخطط"، ففيه حفظ ذكرى العديد من الأمكنة التي اندثرت بحفظه لأسمائها، وفيه أيضاً حفظ وصف هذه الأمكنة والقصص التي نسجت حولها مما منحها بعداً تاريخياً بغض النظر عن اختفائها، مما أبقاها حيّة في أفئدة المعاصرين. فالمقريزي بهذا يقدم دعامتين أساسيتين مترابطتين لا غنى عنهما للانتماء في خطاب الهوية الوطنية في عصرنا المضطرب: تاريخ المكان وتاريخ الناس، أي الأجداد، الذين عاشوا فيه، على الأقل حتى عهده.
وبعبارة أخرى، فإن خطط المقريزي أصبحت جزءاً من "الذاكرة الثقافية" كما عرّفها عالم المصريات جان أسمان، أي سرد لماض تم تبنيه ورعايته من قبل الأمة (أو رواتها) كجزء من هويتها. والمقريزي بذلك قد تجاوز هدفه الأصلي من جمع كتابه كوسيلة لمواجهة الخراب المتسارع لمدينته القاهرة التي كان يراقبها بمرارة وإحباط. وما رواية رحلات الطرشجي الحلوجي إلا مرحلة متقدمة من تقمّص المقريزي نفسه، مجازيًا عبر خيال وإبداع خيري شلبي، لدور لم يكن من الممكن تصوّره في القرن الخامس عشر: حامل ذاكرة الأمة.
* مؤرّخ معماري مقيم في الولايات المتحدة