من الواضح أنّ شركات صناعة الحواسيب لا تبذل جهداً كبيراً في تحويل الحواسيب المحمولة من الإنكليزية إلى عربية، فكلّ ما ينبغي عليها القيام به هو طباعة حروف عربية إلى جانب الحروف الإنكليزية على لوحة المفاتيح. وبهذا يتحوّل أيّ حاسوب محمول مِن إنكليزي إلى عربي.
سبب ذلك عدم وجود لوحة مفاتيح مصمَّمة لكي تناسب اللغة العربية إلى حدّ الآن. وربّما يجدر القول إنّ لوحة المفاتيح العربية ما زالت "متطفّلة" على لوحة مفاتيح اللغة الإنكليزية. قد لا يعرف كثيرون في العالم العربي أنّ الحال ليست هكذا مع لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية والروسية، وربّما في أغلب لغات العالم.
فالأصل في لوحة المفاتيح أن تكون مصمّمة لاحتياجات وشروط اللغة المستخدَمة، أي أنّها ليست نسخة من لوحة مفاتيح لغة أُخرى. ومن المعقول التساؤل إن كانت هناك لغة أُخرى في العالم، سوى العربية، يضطرّ فيها المرء للقيام بمجهود إضافي للتمكّن من وضع النقطة في نهاية جملة ما.
تُسبّب لوحة المفاتيح العربية الأكثر استخداماً حالياً في نظام "ويندوز" - وهي عربية رمزها 101 - صعوبات أُخرى أيضاً، فلأجل كتابة حرف الذال أو الشدّة، مثلاً، يجب القفز إلى سطر الأرقام في لوحة المفاتيح، وهذا يتطلّب جهداً ووقتاً إضافيَّين ويشتّت الذهن، وسببه الوحيد استخدام لوحة المفاتيح الإنكليزية. فمَن يكتب بالعربية مُستخدماً لوحة مفاتيح ألمانية مثلاً - كما هي الحال معي - لن يضطرّ للقيام بقفزة كهذه لأجل كتابة حرف الذال أو الشدّة، وذلك لأنّ لوحة المفاتيح الألمانية فيها زرّ إضافي، غير موجود في أغلب لوحات المفاتيح الإنكليزية، يمكن استخدامه لكتابتهما، عبر تفعيل العربية التي رمزها 102.
صحيحٌ أنّ كتابة الحركات، أي التشكيل، ممكنٌ في لوحة المفاتيح العربية الحالية، لكنّه ممكنٌ بخطوتين، أي ليس بكبسة واحدة على لوحة المفاتيح، بل باثنتين. والتخلّي عن بذل هذا المجهود، بغضّ النظر عن الدافع، هو أحد الأسباب المهمّة لالتباس المعنى أو وجود أكثر من تأويل لما هو مكتوب. لقد قيل إبّان عصر النهضة، وإن بشيء من المبالغة، إنّ العربية هي "اللغة الوحيدة التي ينبغي على المرء فيها الفهم قبل إجادة القراءة".
لصعوبة رقن الحركات في لوحة المفاتيح تأثيرٌ على الكتابة
لكنّ من الصحيح القول إنّ المفروض في أيّة لغة أن تكون كلماتُها واضحة في حدّ ذاتها من ناحية الإملاء واللفظ، أي أن يكون لكلّ كلمة رسمها الخاص بها الذي يميّزها عن سواها من كلمات. غياب هذه الصفة سيجعلها لغة مائعة وغير دقيقة، ويصعب الاعتماد عليها كمصدر للمعرفة أو إنتاجها. أمّا القلائل الذين يبذلون الجهد في الضغط مرّتَين لكتابة الحركات أو الشدّة، فهُم يجشّمون أنفسهم عناءً كان تجنُّبه ممكناً. لنُفكّر بعدد الكلمات العربية التي ترد فيها الشدّة.
لكنّ صعوبة الوصول إلى الحركات في لوحة المفاتيح العربية لها أيضاً تأثيرٌ غير مباشر يحدث أثناء الكتابة، وذلك بتجنّب كتابة الكلمات التي قد يكون لها أكثر من معنى بسبب غياب الحركات، أو التخلّي عن استخدام صيغة المبني للمجهول.
هناك، إذن، ضرورة لتصميم لوحة مفاتيح خاصّة بالعربية يكون الوصول فيها إلى الحركات والشدّة والنقطة والفاصلة والفاصلة المنقوطة وغيره أسهل. ومن جانب آخر ينبغي لها أن تُمكّننا أيضاً من كتابة حروف وأصوات غير موجودة في العربية، ولكنّها فرضت نفسها علينا، بسبب شيوعها في الاستخدام في لغات عالمية مثل الإنكليزية والفرنسية. عدد هذه الحروف والأصوات محدود، ومنها الحروف اللاتينية G وP وV وصوت Ch، كما يُلفظ في كلمة Child الإنكليزية، إضافة إلى ما يُسمى بالجيم اللبنانية الموجودة في كلمة Usually الإنكليزية.
تُستَخدم بدائل برسم عربي لهذه الحروف والأصوات في اللغة العربية منذ زمن طويل، وذلك بعد استعارتها من اللغات العثمانية والكردية والفارسية. يمكن العثور عليها أيضاً في لوحة المفاتيح العربية الحالية، ولكن يجب البحث عنها أوّلاً، كما أنّ كتابتها تجري عادةً عبر فأرة الحاسوب وليس عبر لوحة المفاتيح. ومن الملاحظ أنّ هذه الحروف لا تُستخدَم بنفس اللفظ في جميع البلدان العربية، لذا يجب توحيد لفظها في الكلمات المأخوذة من لغات أجنبية، كي نفهم ما نقرأ بلفظه الصحيح.
أمّا اختيارنا لأسهل الحلول - وهو ليس أفضلها - والمتمثّل في التعبير عنها في بالعربية عبر حروف لفظها قريب منها، مثل استخدام حرف الغين أو القاف أو الكاف كبديل لحرف G، والفاء كبديل لحرف V، وتش أو الجيم كبديل لصوت Ch الإنكليزي، فيؤدّي للخلط والإرباك وأخطاء في النطق، وهذه مشكلة شائعة في كتابة ونطق مصطلحات علمية وفي أسماء عَلم.
وكخطوة أُولى في طريق إصلاح شامل للوحة المفاتيح العربية، يمكن إدخال تحسينات مؤقَّتة عليها، وهذا ليس صعباً، بسبب الإمكانات الهائلة في عالم البرمجة والصناعة، كما يعرف الجميع، ولا ضرورة لأن يكون المرء متخصّصاً في البرمجة ليتساءل عن سبب عدم جعل الصفّ الثاني من لوحة المفاتيح، أي حيث توجد الأرقام، كمكانٍ يجري تحويله بكبسةٍ لمرّة واحدة فقط لاستخدام الحركات والشدّة والنقطة أيضاً؛ فاستخدام الحركات أكثر بكثير من استخدام الأرقام في العادة، علاوةً على أنّ لوحات مفاتيح كثيرة فيها قسمُ أرقام على اليمين أساساً.
كما يمكن أيضاً، بقليل من الجهد، جعلُ أزرار حروف الفاء والجيم والراء والفاء والباء مزدوجةَ الوظيفة تُتيح كتابة تلك الحروف أو الأصوات غير الموجودة في العربية، أي كما هو موجود حالياً في الهواتف الذكية. أمّا فيما يتعلّق بالكتابة في لوحة مفاتيح منفصلة، فلعلّ الحلّ المؤقت سيكون أكثر سهولة، لأنّ لوحة المفاتيح الخارجية أكبر حجماً، وبالتالي يمكن إجراء تحويرات للوظيفة بصورة أسهل فيها.
امتلاك لوحة مفاتيح عربية يستلزم تدخُّلاً سياسياً وممارسةَ ضغط ثقافي
لكنّنا بحاجة، على المدى القريب إلى حلّ دائم أكثر جرأةً يتطلّب اختراع لوحة مفاتيح عربية جديدة. لن تكون مختلفةً كثيراً عن الحالية، لكنّها ستكون مصمَّمة للغة العربية فعلاً. لوحة مفاتيح تكون فيها أزرار سهلة الاستخدام مخصّصة للحركات والشدّة والنقطة. فلو كانت في اللغات الأوروبية حاجة لإيجاد مساحة كهذه لأجل أداء وظيفة ما، لجرى توفيرها منذ البداية في لوحات المفاتيح الخاصّة بتلك اللغات.
ربّما كانت تبعيّة لوحة المفاتيح العربية للغات الأجنبية مفهومة في بداية ظهور الحاسوب، لكنّ استمرارها حتى الآن غير مبرَّر وهو مصدر لمشاكل مستمرّة. هذه التبعيّة كسل، ولا شكّ في أنها ألحقت أضراراً بوضوح وسلامة التعبير باللغة العربية، وستستمرّ بإلحاق الضرر بها، إنْ لم تتخلّص منها.
نتحدّث كثيراً عن ضرورة النهضة، ولكنّنا لا نتحدّث بما يكفي عن أثر أو دور اللغة في تحقيق أيّة نهضة ممكنة، لكن قد يكون إصلاح اللغة شرطاً لهذه النهضة المنشودة، وليس العكس.
ولعلّ تحقيق هدف امتلاك لوحة مفاتيح عربية جديدة يستلزم تدخُّلاً سياسياً وممارسةَ ضغط ثقافي لتحقيق هذا الهدف، فاللغة هي مفتاح التطوُّر على جميع الأصعدة الإنسانية، ولا يمكن تحقيق أيّ هدف ذي معنى بلغة لا تستطيع التخلّص من مشاكلها. وفي حالة لوحة المفاتيح، قد يكون الحلّ أسهل ممّا نتصوّر بكثير.