"الجزيرة الأخيرة" لزولفو ليفانيلي.. ديستوبيا عن حُكم الفرد

10 يوليو 2023
زولفو ليفانيلي في مدريد، شباط/ فبراير 2023 (Getty)
+ الخط -

تأتي رواية "الجزيرة الأخيرة"، للروائي والموسيقي التركي زولفو ليفانيلي (1946)، بالواقع إلى الخيال الأدبي. إنَّها ديستوبيا عن حُكم الفرد، عن عالم أَفسد نفسه بفعل الديكتاتور، وأمرُ واقعيتها قد يختلط عند القارئ، لولا أنّ الجزيرة مكانٌ مفترض، هي قطعة من الجنّة موجودة على الأرض. وما يفعله الديكتاتور، الذي يريد أن يسيطر على غيره من البشر وعلى شتى الكائنات، أنّه يُحيل الجنّة إلى جحيم، يحرق الجزيرة، يقتل كائناتها، ويقود سكّانها إلى السجون.

صدرت الرواية حديثاً ضمن سلسلة "إبداعات عالمية" في الكويت، بترجمة صفوان الشلبي عن التركية، ومراجعة محمد حقّي صوتشين، وهي ثاني روايات ليفانيلي التي تُنقل للعربية، بعد "فندق القسطنطينية" التي صدرت العام الماضي بترجمة أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير.

عن صنع أعداء وهميّين للسيطرة على الناس ومصادرة حريتهم

تستعير "الجزيرة الأخيرة" تجارب عدد من البلدان، لتضعها في قالب حكائي عن جزيرة تسود المحبّة وروح العمل والخير بين سكّانها محدودِي العدد، حتى إنّهم لا يملكون أسماء، بل أرقاماً فقط، وليس هذا لقلّة القيمة، بل هو مقياس للمساواة بينهم. جميعهم لديهم بيوت، يعملون ويشاركون بعضهم. ويدفع بهم موت أحد سكّان الجزيرة إلى الإعلان عن وجود سكنٍ شاغر لديهم؛ يملأه الرئيس الذي أحال نفسه على التقاعد، وقرّر متابعة حياته بهدوء في الجزيرة، وهذا عرض لحياة مثالية توشك أن تنتهي.

يأتي الرئيس المتقاعد إلى الجزيرة، ويأتي بنظامهِ معه، وسرعان ما يتدخّل في الجزيرة؛ بدءاً من شكل الأشجار. إذ يقلِّم حُرّاسُه الأشجار التي تتشابك في الأعلى، لتترك ظلّها على المشاة. تتعرّض حفيدته، إلى ما اعتقدته هجوماً من أحد النوارس، ويعيش هو تحت تهديد شرّ أعماله، يشعر أنّه ملاحَق، ويشكّ بحركة النوارس على شرفته، ثمّ يقرّر القضاء عليها. يبدأ الديكتاتور معركته مع النوارس. يعارضه فيها الراوي وزوجتُه وصديقه الكاتب. لكنّها معركة خاسرة بالنسبة إليهم، لأنّ الديكتاتور أحضر معه، إلى جانب النظام، المخاوفَ التي تحكّم بواسطتها في الرأي العام، إذ ليس لسكّان الجزيرة الحقّ في جزيرتهم، فهم لا يملكونها قانونياً.

غلاف الكتاب

تبدأ بالفعل معركة مع النوارس، تقع فيها خسائر أشدُّها على التوازن البيئي، إذ أحضر الرئيس المتقاعد عدداً من الثعالب التي تتغذّى على بيوض النوارس كي يحسم المعركة. ومع نقص أعداد النوارس، ازداد عدد الثعابين التي بدأت هجوماً على السكّان. ليعلن الديكتاتور معركة جديدة مع الثعالب، فيسمّم الحيوانات كلّها في سبيل تسميم الثعالب، ثمّ يحرق الغابة، وتحترق الجزيرة. هذه هي الحبكة باختصار، وهي معركة بين الناس والحيوانات. أمّا في التأويل، فهي عن صنع أعداء وهميّين بهدف السيطرة على قرار الناس، ومصادرة حريتهم.

عدا عن المآل الذي انتهت إليه الجزيرة بأن فقدها أهلُها، وسُجنوا، فإنّ الدليل على أنّ الرواية نصٌّ عن مصادرة حرية الآخرين وقرارهم، هي شخصية الكاتب التي تقول هذا، وتدلُّ عليه. كما يدفع الكاتب ثمن مواقفه بأن يُتَّهم بالإرهاب، يُعتقل، وتُوضَع الأثقال بين ساقيه، ويُرمى في عرض البحر. الكاتب كان يقول هذا، عبر مناكفته المنطقية للديكتاتور، وتحذيراته لسكّان الجزيرة من أنّهم يفقدون جزيرتهم تدريجياً. ثمّ بموت الكاتب، أورثَ لشخصية بقيت جبانة طوال السرد، مسؤولية أن يقص حكاية الجزيرة؛ فالرواية ديستوبيا تحذّر من شكل الحُكم الاستبدادي، ومن غياب الديمقراطية، وتداول السلطة والنزاهة.

ربما لم ينشغل الكاتب التركي بواقعية حكايته في بلدٍ آخر، بقدر ما انشغل بجعلها حكاية لها منطقها الخاص، الناجح في بناء خطة سببية لانهيار العالم الأفلاطوني. وكأنّما الديكتاتور جاء كي يخرّب هدوء العيش، وكأنّما الشرائع التي أعلنها تعتدي على فطرة الخير داخل الكائنات جميعها؛ إذ حتّى النوارس تنتهي إلى كائنات شرّيرة، تتربّص بالسكّان الآمنين، والشرُّ عندما يطغى يأخذ في طريقه حتَى الأشجار التي أحالها إلى رماد أسود.


* روائي من سورية

 

المساهمون