قدّم ستّة باحثين في ندوة أقامها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في الدوحة أمس الثلاثاء قراءاتهم تحت عنوان "الحرب على غزة: الصمود والمقاومة ومخطط الإبادة والتهجير".
وأقيمت الندوة في جلستين، تناولتا "طوفان الأقصى" الحدث الاستراتيجي الفارق في تاريخ المقاومة الذي وقع يوم السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، ومآلاته على مستوى القضية الفلسطينية، وما تبعه من حرب إبادة على قطاع غزة، ضمن أهداف إسرائيلية انتقامية معلنة معززة بدعم غربي.
تحضيرات للجريمة
في الجلسة الأولى حذر تامر قرموط، رئيس برنامج الإدارة العامة والسياسات العامة في "معهد الدوحة للدراسات العليا"، من تحضيرات لجريمة كبرى مع دخول 500 ألف جندي إسرائيلي، وهو أكبر من الجيش الروسي الذي يخوض الحرب في أوكرانيا.
وأرجع قرموط في ورقته "طوفان الأقصى" إلى انسداد الأفق السياسي بوجود حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة في ممارساتها العنصرية والاستيطانية، وعيش الفلسطينيين في القطاع تحت ظروف مؤلمة.
وأضاف أن "حماس" لم تتسلّم حكم غزة بوصفها أرضاً محرّرة، بل ما زالت محتلة حتى الآن، وتحوّلت إلى سجن كبير يعيش فيه مليونان و300 ألف إنسان، نصفهم تحت خط الفقر، و80% من الشباب الخريجين عاطلون من العمل.
وطرحت ورقته جملة من الأسئلة بخصوص التوقيت والمشهد المتوقع مستقبلاً، من قبيل سعي إسرائيل لإنهاء حكم "حماس"، وهو ما فشلت فيه أكثر من مرّة، غير أن الوضع الراهن إذا تقرر في الذهاب إلى مثل هذا الخيار فسيكون مع دمار غير مسبوق وفق ما أضاف وذا تكلفة بشرية باهظة، ما يجعله مستبعداً، ولا يحظى بموافقة أميركية مطلقة.
"ولربما كما يواصل أن يكون السيناريو حرباً برية محدودة في الشمال وليست شاملة، لكن مدمرة تليها صفقة سياسية لتبادل الأسرى والاتفاق على هدنة طويلة المدى بضمانات لاعبين دوليين"، قال قرموط دون التقليل مما تلمسه من إحباط لدى "حماس"، إذ توقعت أن تكون الكرة متدحرجة في المجتمعات العربية بعد عمليتها الكبرى التي تشبه حرب 1973 مصغرةً، لكن هذا لم يكن بالمستوى المأمول، وفي ذات الوقت عدم التقليل من سعي رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو "المجنون" لخلط الأوراق وتوريط أميركا في حرب واسعة لا تريدها.
القانون الدولي
من ناحيته طرح غسان الكحلوت، مدير مركز دراسات النزاع والعمل الإنساني في "المركز العربي"، ورقته بعنوان "عدوان إسرائيل على غزة والانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي وحقوق الإنسان".
وعدّد المتحدث طائفة من القوانين الدولية، وخصوصاً الرابعة في "اتفاقية جنيف" التي نتحدث عنها كثيراً حين تُذكر فلسطين وتتعلق بحماية المدنيين وقت الحرب.
وإذا كان ثمة ما يمكن البناء عليه وفق ما قال، فهو إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وأن إسرائيل لن تكون إلا دولة عدوة وليست مخلصة للدول العربية التي تطمع بحمايتها.
تحوّلت غزة إلى سجن كبير يعيش فيه مليونان، نصفهم تحت خط الفقر
أمّا الحديث الكثير عن القوانين التي تختص بالحروب بين الدول، فهي حكماً لا تنطبق على فلسطين الواقعة تحت الاحتلال، وبالتالي كما يمضي فإن إنفاذ هذا القانون كان في الحالة الفلسطينية مجرد حبر على ورق، لا كما حدث في محاكم جرائم الحرب في البوسنة والهرسك وسيراليون ورواندا، ذلك أن الإرادة الدولية متضامنة كثيراً مع المحتل.
لكن هذا كما خلص لن يمنع من توثيق الجريمة لوضعها مستقبلاً أمام محاكم، قد تساق إليها إسرائيل بتهمة جرائم الحرب، التي شوهدت بوضوح لا يرقى إليه الشك على شاشات التلفزة.
حفرة الجحيم
استعارت آيات حمدان، مديرة تحرير دورية "أسطور" للدراسات التاريخية، من تصريح لـ"الأنروا" وصف "غزة حفرة من الجحيم"، في ورقتها التي عاينت التطهير العرقي والتهجير في القطاع.
وقدّمت معلومات ضافية مرفقة ببيانات إحصائية للأوضاع التي جعلت هذه المنطقة وهي من أكثر مناطق العالم كثافة سكانية مجالاً لارتكاب جرائم الحصار الخانق بدءاً من اعتماد المحتل حداً أدنى من السعرات الحرارية المسموح بها للفلسطيني وفقاً لسنه وجنسه، وبالتالي احتساب عدد الشاحنات التي تدخل غزة، وصولاً إلى استسهال قتله ونزع صفة البشرية عنه وفق تصريحات نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت.
وتناولت آيات حمدان خريطة الأوضاع السكانية والاقتصادية والصحية بالأرقام، وهي أرقام بطبيعة الحال تبقى قابلة للتدهور مع الحرب الحالية.
فقد كانت الكهرباء في وضع مزرٍ والمياه مرشّحة لنضوب سريع، إضافة إلى تلوثها في الظروف العادية، ويقصد بالعادية العيش في السجن المفتوح في هدنة مؤقتة من الصواريخ والقنابل والفوسفور الأبيض.
أما صحياً، فإن المستشفيات الفلسطينية تعاني من التزود الكافي بالمستلزمات الطبية والدوائية. والآن هي تحت رحمة الطائرات، وكما قالت، فقد بات لكل أربعة جرحى سرير واحد.
حرب لا متناظرة
وفي الجلسة الثانية بدأ أحمد قاسم حسين، مدير تحرير دورية "سياسات عربية"، مشاركته تحت عنوان "الحرب اللامتناظرة: الأداء العسكري للمقاومة في عملية "طوفان الأقصى"".
وقدّم في المستهل هذا النوع من الحروب بالقول إنها الحرب التي تشير إلى فارق كبير ونوعي في القوة بين الأطراف المتحاربة.
فهناك جيش الاحتلال المدجج بترسانة تسليحية، وهنا الطرف الأضعف تسليحاً، المقاوم الذي يستخدم تكتيكات غير تقليدية تقوم على عنصري المرونة والتكيف، وفقاً لطبيعة المعركة، فيلجأ إلى هجمات انتحارية وعبوات ناسفة وصواريخ ومسيرات وتكنولوجيا محدودة ومتاحة، ويعمل في الدفاع على توظيف معرفته بالبيئة المحلية، والاستفادة من التضاريس والتنشئة السياسية والتعبئة للمقاتلين، وتماسك الحاضنة الاجتماعية.
ولدى تناوله احتمالات التطور الميداني، التي يرشح منها قيام الاحتلال بعملية برية، قال إن "ثمة معوّقات عسكرية لن تجعلها عملية سهلة، لامتلاك المقاومة تسليحاً في مثل هذه المواجهات الصفرية".
سقوط الجدار
وقال طارق دعنا، رئيس برنامج الماجستير في إدارة النزاع والعمل الإنساني بـ"معهد الدوحة للدراسات العليا"، إن هناك إجماعاً في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية والأميركية على أن نجاح "طوفان الأقصى" كان أكبر صدمة أذلّت فرقة عسكرية كاملة من عشرين ألفاً مسلحة بأعتى الأسلحة والأسيجة الأمنية.
وأضاف في ورقته: "سقوط الجدار الحديدي: أزمة العقيدة العسكرية الإسرائيلية بعد عملية طوفان الأقصى" أن "أي محاولة للتقليل من شأن الإنجاز هو محاولة بائسة للتغطية على الهزيمة التي منيت بها العقيدة العسكرية الإسرائيلية".
وقال إن العقيدة العسكرية في إسرائيل ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع والثقافة والاقتصاد، حيث تتغلغل في مناحي الحياة كافة، بما فيها على ما يبدو ظاهرياً أنه مدني، وهي ترتكز على ما يمكن تسميته الثالوث المقدس: الردع والإنذار المبكر والانتصار الحاسم والسريع، وهذه جميعها أفشلها "طوفان الأقصى".
لكن قطاع التقنية العالية High tech، الذي يشكل 18% من النشاط الاقتصادي ومن أكثر القطاعات توليداً للايرادات، هو وفق ما أوضح أحد أبرز معالم الفشل في الردع والإنذار المبكر اللذين تباهى بهما المحتل.
ففي العلاقة العضوية بين الجيش وقطاع التقنية، كان أبرز ما انتجه هو السياج الذكي الذي وصفه بالغبي، وإذ كان يمثل أعتى صور الردع الإلكتروني في العالم والمصدر المالي المهم، وقد بيع لأكثر من مئة دولة حول العالم، فإن اختراقه من المقاومين سيترك أثراً عميقاً على العقيدة العسكرية للاحتلال.
الردع والتدرج
وكان آخر المتحدثين خليل جهشان، المدير التنفيذي لـ"المركز العربي" - فرع واشنطن العاصمة، مع ورقته "الحرب على غزة: الردع أو التدرج نحو تدخل الولايات المتحدة الأميركية".
ولاحظ جهشان أن أميركا الرسمية تحشد باتجاه جعل الصراع كأنه بدأ يوم السابع من الشهر الجاري، وقال إن رد فعلها مرّ بثلاث مراحل في الأيام العشرة الفائتة.
المرحلة الأولى هي الصدمة بعد الفشل الاستخباري الكامل، مع وجود ادعاء لدى "سي آي إيه" بأنها أظهرت تحذيرين أمنيين حول تهديدات حماس المتزايدة، إلا أنها اعتبرت في أميركا وإسرائيل روتينية ولم تأخذاها على محمل الجد.
والمرحلة الثانية رد الفعل السياسي المتسرع، الذي ركز كلياً على دعم إسرائيل الحليفة وتزويدها بالسلاح دون اعتبار جدي للأبعاد الداخلية والخارجية من معارضة الكونغرس وغيره، ودون الاكتراث بالشبكة المعقدة للمصالح الوطنية في المنطقة بما فيها الأهداف المنشودة، في توسيع قائمة الدول العربية المطبعة مع اسرائيل، الأمر الذي تم تجميده حالياً.
والمرحلة الثالثة في سعي إدارة بايدن لمنع توسع الصراع خارج غزة، خصوصاً على الجبهة الشمالية مع حزب الله، لكنها في الوقت نفسه تحضر أسطولها البحري لإطلاق يد اسرائيل في شنّ حرب انتقامية على الشعب الفلسطيني.