أن يكونَ الإنسان عربياً ويعيش دون انهيارات عصبيّة تَحدّ من قدرته على المضي قُدُماً في حياته وتطوير نفسه فكرياً وروحياً، فذلك بحدّ ذاته نوع من البطولة الوجودية. فالإنسان العربي في العصر الحالي، ولا أقول الحديث لأنّه ليس حديثاً، هو إنسان محاصَر بأغلال كثيرة، وربّما أحلاها مُرّ.
قد يعيش الإنسان العربي ويهنأ ولا يسمع الأخبار، ولا يشعر بالبشر الآخرين من أبناء وبنات جلدته، ويقبض راتبه، ويفسّر الأشياء بمزاج بليد، فيصبح كلّ عربي يحاول مقاوَمة الظلم والقهر متهوّراً وعديم الفهم، أو يتبنّى الهزيمة كطريقة حياة ويتماهى مع الأعداء الوحوش ويحاول تقليد أنماط حياتهم من دون أدنى فهم لهذه المجتمعات وترسّبات العفن فيها.
وقد يتفاعل قليلاً لتبرئة الذمّة، أو يغضّ الطرف بمبرّر أنّه لا حول له ولا قوّة، أو يتفاعل كثيراً مع ما يحدث في العالم العربي من دمار وتدمير، فيحترق ويحترق حتى تنطفئ روحه، أو يركن للقدر ولولاءات دينية محشوّة بالمسكّنات وما يُطمئن بأنّ ما هو قادم في المستقبل أفضل، بينما لا دلالات مادية تشير إلى ذلك أبداً، والعكس صحيح.
وعلى كلّ الجهات يبقى الإنسان العربي غير سويّ في أغلب الأحيان، مضطرب ومُقلَّم الأطراف، يحاول مداواة جراح نفسه بالمراوغة عليها، لأنّه في النهاية لا حول له ولا قوّة، فقد وُلد في مجتمعات غير سويّة بنيوياً.
إذن، يصعب على الإنسان العربي الحالي أن يكون سويّاً عاقلاً، وبمنأى عن الحصارات البنيويّة التي تحيط بحياته، سواء من الطبقة الحاكمة وأدوات البطش فيها ومحدوديّة الحرّيات الفردية؛ بسبب النظام الأبوي والمواريث الدينية والفهم الاستبدادي لها، أو الاستعمار الخارجي وما تقبله وما لا تقبله من استقلال وسيادة لهذه الدول والأفراد فيها، أو من "إسرائيل" المتوحّشة على الدم العربي الفلسطيني والسوري واللبناني وما سيليها من دماء عربية.
وقد تأزّم الوضعُ بصورة فظيعة إذ أصبح لزاماً على الإنسان العربي أن يتعايش مع القتل والدمار بالجملة لأبناء جلدته من فلسطين إلى سورية والعراق واليمن ولبنان، ولا يبدو قيد أنملة أنّ ما هو قادم أفضل. والواضح أنّ الحصار على الفرد العربي وفي البيئات العربية أصبح أكثر شدّة وقهراً، ولا يتراجع. والسؤال أمام هذا كلّه: ما المَخرج؟
ما نطرحه بشأن الإنسان العربي المحاصَر حيثما وُجد بالضنك والضيق، سواء الملموس والمباشر أو غير الملموس وغير المباشر، قائمٌ على فرضية فضفاضة، وهي أنّ اللغة والتاريخ المشترك والمواريث الدينية الجامعة، بما في ذلك الإسلام والمسيحية في العالم العربي وغيرهما، تُفضي إلى مشاعر وآلام مشتركة أيضاً.
حصارات بنيويّة عديدة تحيط بالإنسان العربي وتكبّل حياته
أقول إنّ هذه الفرضية فضفاضة لأنّ كثيراً من الناس لا يشعرون بآلام الآخرين وحياتُهم مليئة بعدم الاكتراث، فلا يمسسهم قرح ولا تؤثّر عليهم الأحداث في دول عربية أُخرى. هذا صحيح لدرجة ما، لكن ما من شك في أنّ العناصر المشتركة المذكورة آنفاً هي فعّالة من ناحية الشعور والتأثير على الناس، ومن ناحية النتائج على الصحّة العقلية والنفسية للإنسان العربي.
وبالتالي فإنّ العرب، بشكلٍ عام، يعيشون في بيئات مقهورة، وتقدُّمهم نحو التحرّر والحرية، سواء الفردية أو المجتمعية، والانعتاق من حُكم الخارج الأجنبي الظالم غير واردَين ما لم يتخطّوا النرجسيات الوطنية الضيّقة وينطلقوا نحو مشروعٍ تحرّري وإنساني وديمقراطي أيضاً. ولا أقصد بالديمقراطي أن يكون غربياً، فالديمقراطية الغربية في دول مثل أميركا وبريطانيا هي ديمقراطية شكلية تُفضي إلى فظائع في الداخل والخارج.
إنّها ديمقراطية شكلية ومحدودة، وبشكلٍ مطّرد تأتي بأناس كذّابين وجهلاء من طراز يبعث على الغثيان. إنّها ديمقراطية اللوبيات والمصالح المشتركة لأفراد من خلفيات مجتمعية واقتصادية مشتركة. وعلى الرغم من كلّ ذلك، تبقى هذه المجتمعات الديمقراطية أفضل من المجتمعات غير الديمقراطية، حيث أهواء وأمزجة فردية وقبَلية تتحكّم في أحوال الناس وتطحن مصائرهم طحناً وقتما أرادت.
دائماً هناك فرصة أمام العرب للتفكير الأفضل والبنّاء والعمل المشترك وتجنُّب الدمار، ولكنّ ذلك يتطلّب تجاوُز القُطريات المقيتة والقبَليات الضيّقة، وفي هذا صعوبة جمّة جدّاً بلا شك. وفي أثناء هذا يستمرّ البلاء والدمار بلا أيّ أُفق للخلاص الجمعي العربي.
* شاعر وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن