هل هناك شيء اسمه "الدولة الإسلامية" في العصر الحالي يمكنه أن يتأسس ويكون نقيضاً لـ "الدولة الحديثة"، وما هو شكل هذه الدولة إن وجدت، وعلى أية أسس تقوم؟ هذه بعض الأسئلة التي يتصدى لها امحمد جبرون، الباحث والأكاديمي المغربي، في هذا الكتاب الذي يحتوي جهداً كبيراً ومقدراً في البحث والقراءة التاريخية، ويحاول تأصيل مفهوم الدولة الإسلامية وعلاقتها الإشكالية بمسألة وسيرورة الحداثة التي تفرض نفسها على عالم اليوم (بما فيه مسلميه). ابتداء، ينطلق جبرون من فكرة أساسية مفادها أن التسيس الإسلامي وشكل "الدولة" والنظام السياسي في التاريخ الإسلامي كان نتاج الضرورات والسياقات التاريخية وليس النصوص الدينية الثابتة. وهذه الفكرة المؤسسة لأطروحة الكتاب مهمة ومركزية وتبقي النقاش مفتوحاً على مصراعيه، وإن كانت غير جديدة.
بحسب جبرون، ينبني النموذج النظري لـ "الدولة الإسلامية" على أركان ثلاثة هي البيعة والعدل والمعروف، ويشكل هذا المثلث المعياري وما يحيطه من سجال ونقاش وتطور في السياقات التاريخية العمود الفقري للكتاب، وجوهر البنية البديلة التي يطرحها المؤلف لـ "دولة الحداثة". وانتقالاً بين زوايا هذا المثلث تأخذنا فصول الكتاب في رحلة تاريخية وفكرية من العصر النبوي والراشدي، ثم الأموي والعباسي، وتقفز الى العصر الحديث وصولاً الى "النموذج المغربي" في التسيس وإدارة الدولة. هناك فجوات تاريخية واضحة في هذه السردية، وأهمها الحقبة العثمانية وانعكاسات تجربتها على الفكر الإسلامي إزاء موقع السياسة من الدين، ولجهة شكل النظام السياسي القائم. لكن ما يظل محيراً هو التوسع الزائد عند المثال المغربي، بما يثير تساؤلات عميقة من ناحية منهجية وبحثية لا تتوفر الاجابة عنها في الكتاب. لكن وبالعودة الى اركان المثلث التأسيسي فإن المؤلف لا يوضح لنا كيف انتقاها وانتهى إليها من دون غيرها من القيم والأعراف سواء في الفضاء الإسلامي، أو الإنساني. إضافة الى ذلك ثمة استعجال في إطلاق حكم عام يقول إن الحقبة الراشدية شهدت تطبيقاً واسعاً لـ"أصول الاجتماع السياسي الإسلامي"، أي الأركان الثلاثة، البيعة، العدل، والمعروف. أين كمال العدل والمعروف، مثلاً، في حقبة حكم عثمان مثلاً، والمسائل الخلافية المتعلقة بإيلائه الولايات والإمارة لأقربائه المقربين، وما نتج عنها من خلاف. ثم أين كمال العدل والمعروف في حروب الصحابة أنفسهم، وتحديداً الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية؟ معنى ذلك أن "النموذج" النقي وكماله المُفترض والذي يبني عليه جبرون نظريته هو ذاته محل تساؤل ومن منظور ركنين من الأركان الثلاثة التي يقترحها، وبالتالي فإن انتصابه كمثال تاريخي قيد الاقتداء يصير محل نقاش أيضاً.
يمكن التوسعة هنا حول مفهوم "المعروف" باتجاه آخر: ذلك ان ثمة احتياجاً الى توسع اضافي في قراءة التطبيقات القديمة والمعاصرة لـ "المعروف" خاصة في جانب "النهي عن المنكر" وما آلت إليه هذه التطبيقات. صحيح أن فكرة المؤلف أوسع من ذلك، لكن ذلك لا يقيها من الربط الآلي بما هو موجود ومن التطبيقات التي صارت جزءاً من التجربة التاريخية: اين تقف حدود النهي عن المنكر؟ ومن هي الجهة المُخولة القيام بذلك في العصر الحديث؟ فممارسة "النهي عن المنكر" أصبحت جوهر الفعل لدى تنظيمات وحركات سلفية وتيارات عديدة، بعيداً عن الدولة، وبعيداً عن ولي الأمر، ووصل بها الأمر إلى ان تعلن ذاتها دولة وولية أمر وتشرع في فرض ما تراه معروفاً، وإزالة ما تراه منكراً، وفي الحالتين تقودها أكثر التفسيرات تشدداً وتعصباً.
يمر المؤلف (بسرعة ملفتة) على أطروحات الإسلاميين المحدثين حول فكرة "الدولة الإسلامية"، ويقتبس عن عدد من الكتاب والمفكرين الاسلاميين مقولاتهم ونظرياتهم بشأنها، ومن هؤلاء أبو الأعلى المودودي، وعبد القادر عودة، وخالد محمد خالد، وتقي الدين النبهاني، وراشد الغنوشي، وعبدالله النفيسي، وعبد السلام ياسين، وعبد الوهاب الافندي، ولؤي صافي. والى جانب الابتسار في عرض افكار هؤلاء فإن هناك استثناءً لآخرين لا يقل تأثيرهم اهمية، بل ربما فاق تأثير أفكارهم أفكارَ أولئك الذين تم ذكرهم، مثلاً سيد قطب وحسن الترابي والخميني، اضافة الى إرث الفكر السلفي بتياراته المختلفة (والتي انتهى بعضها الى التنظير لـ"الدولة الاسلامية" في العراق والشام التي يتزعمها "الخليفة" البغدادي!). وما هو مرتبط بأفكار الاسلاميين هو تأكيد المؤلف على عجزهم "عن التحرر من شروط السياق، والتخلص من قيوده" في فهمهم وتنظيرهم لمسألة الدولة الاسلامية، وفي مقابل ذلك فإن الفكرة المركزية في أطروحته حول الدولة الإسلامية في العهود الأولى ثم البناء على مبادئها هو القول بأنها كانت نتاج الظروف والشروط السياقية.
الأطروحة الرئيسة للكتاب قد تبدو محيرة إذ قد يُفهم منها الشيء ونقيضه، ولكن ذلك لا ينتقص من الجهد الكبير فيه وفي إثارته للأفكار. ففي الوقت الذي يكرر فيه المؤلف ضرورة عدم الخضوع للسياق لتحديد مفهوم الدولة الاسلامية عند المفكرين المعاصرين، فإنه يخضع عملياً "مفهوم الدولة الاسلامية" لفقه التاريخ (أي السياق بشكل أو بآخر)، ويؤكد على "الشرعية الأخلاقية" للتاريخ غير المتوائم مع المثال الطوباي ويكشف عن "الإكراهات" التي مرت بها تلك الشرعية وأهمية فهم وقبول تلك الإكراهات.
(كاتب عربي)
بحسب جبرون، ينبني النموذج النظري لـ "الدولة الإسلامية" على أركان ثلاثة هي البيعة والعدل والمعروف، ويشكل هذا المثلث المعياري وما يحيطه من سجال ونقاش وتطور في السياقات التاريخية العمود الفقري للكتاب، وجوهر البنية البديلة التي يطرحها المؤلف لـ "دولة الحداثة". وانتقالاً بين زوايا هذا المثلث تأخذنا فصول الكتاب في رحلة تاريخية وفكرية من العصر النبوي والراشدي، ثم الأموي والعباسي، وتقفز الى العصر الحديث وصولاً الى "النموذج المغربي" في التسيس وإدارة الدولة. هناك فجوات تاريخية واضحة في هذه السردية، وأهمها الحقبة العثمانية وانعكاسات تجربتها على الفكر الإسلامي إزاء موقع السياسة من الدين، ولجهة شكل النظام السياسي القائم. لكن ما يظل محيراً هو التوسع الزائد عند المثال المغربي، بما يثير تساؤلات عميقة من ناحية منهجية وبحثية لا تتوفر الاجابة عنها في الكتاب. لكن وبالعودة الى اركان المثلث التأسيسي فإن المؤلف لا يوضح لنا كيف انتقاها وانتهى إليها من دون غيرها من القيم والأعراف سواء في الفضاء الإسلامي، أو الإنساني. إضافة الى ذلك ثمة استعجال في إطلاق حكم عام يقول إن الحقبة الراشدية شهدت تطبيقاً واسعاً لـ"أصول الاجتماع السياسي الإسلامي"، أي الأركان الثلاثة، البيعة، العدل، والمعروف. أين كمال العدل والمعروف، مثلاً، في حقبة حكم عثمان مثلاً، والمسائل الخلافية المتعلقة بإيلائه الولايات والإمارة لأقربائه المقربين، وما نتج عنها من خلاف. ثم أين كمال العدل والمعروف في حروب الصحابة أنفسهم، وتحديداً الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية؟ معنى ذلك أن "النموذج" النقي وكماله المُفترض والذي يبني عليه جبرون نظريته هو ذاته محل تساؤل ومن منظور ركنين من الأركان الثلاثة التي يقترحها، وبالتالي فإن انتصابه كمثال تاريخي قيد الاقتداء يصير محل نقاش أيضاً.
يمكن التوسعة هنا حول مفهوم "المعروف" باتجاه آخر: ذلك ان ثمة احتياجاً الى توسع اضافي في قراءة التطبيقات القديمة والمعاصرة لـ "المعروف" خاصة في جانب "النهي عن المنكر" وما آلت إليه هذه التطبيقات. صحيح أن فكرة المؤلف أوسع من ذلك، لكن ذلك لا يقيها من الربط الآلي بما هو موجود ومن التطبيقات التي صارت جزءاً من التجربة التاريخية: اين تقف حدود النهي عن المنكر؟ ومن هي الجهة المُخولة القيام بذلك في العصر الحديث؟ فممارسة "النهي عن المنكر" أصبحت جوهر الفعل لدى تنظيمات وحركات سلفية وتيارات عديدة، بعيداً عن الدولة، وبعيداً عن ولي الأمر، ووصل بها الأمر إلى ان تعلن ذاتها دولة وولية أمر وتشرع في فرض ما تراه معروفاً، وإزالة ما تراه منكراً، وفي الحالتين تقودها أكثر التفسيرات تشدداً وتعصباً.
يمر المؤلف (بسرعة ملفتة) على أطروحات الإسلاميين المحدثين حول فكرة "الدولة الإسلامية"، ويقتبس عن عدد من الكتاب والمفكرين الاسلاميين مقولاتهم ونظرياتهم بشأنها، ومن هؤلاء أبو الأعلى المودودي، وعبد القادر عودة، وخالد محمد خالد، وتقي الدين النبهاني، وراشد الغنوشي، وعبدالله النفيسي، وعبد السلام ياسين، وعبد الوهاب الافندي، ولؤي صافي. والى جانب الابتسار في عرض افكار هؤلاء فإن هناك استثناءً لآخرين لا يقل تأثيرهم اهمية، بل ربما فاق تأثير أفكارهم أفكارَ أولئك الذين تم ذكرهم، مثلاً سيد قطب وحسن الترابي والخميني، اضافة الى إرث الفكر السلفي بتياراته المختلفة (والتي انتهى بعضها الى التنظير لـ"الدولة الاسلامية" في العراق والشام التي يتزعمها "الخليفة" البغدادي!). وما هو مرتبط بأفكار الاسلاميين هو تأكيد المؤلف على عجزهم "عن التحرر من شروط السياق، والتخلص من قيوده" في فهمهم وتنظيرهم لمسألة الدولة الاسلامية، وفي مقابل ذلك فإن الفكرة المركزية في أطروحته حول الدولة الإسلامية في العهود الأولى ثم البناء على مبادئها هو القول بأنها كانت نتاج الظروف والشروط السياقية.
الأطروحة الرئيسة للكتاب قد تبدو محيرة إذ قد يُفهم منها الشيء ونقيضه، ولكن ذلك لا ينتقص من الجهد الكبير فيه وفي إثارته للأفكار. ففي الوقت الذي يكرر فيه المؤلف ضرورة عدم الخضوع للسياق لتحديد مفهوم الدولة الاسلامية عند المفكرين المعاصرين، فإنه يخضع عملياً "مفهوم الدولة الاسلامية" لفقه التاريخ (أي السياق بشكل أو بآخر)، ويؤكد على "الشرعية الأخلاقية" للتاريخ غير المتوائم مع المثال الطوباي ويكشف عن "الإكراهات" التي مرت بها تلك الشرعية وأهمية فهم وقبول تلك الإكراهات.
(كاتب عربي)