ربّما كانت رواية "1984" لجورج أورويل، الخاتمة التي أغلقت الباب أمام الديستوبيا في الرواية الغربية. لقد سجّل أورويل كلّ ما يُمكن أن يُقال في رواية عن طبيعة السُّلطة في حدودها القُصوى، بحيث أضحت روايته هي المثال شبه النهائي، الذي يجمع كلّ صفات المستبدّ التي تتكرّر في مختلف الأمكنة، وسبق أن تكرّرت في معظم الأزمنة. وقد غابت هذه الشخصية عن الرواية الأوروبية عموماً بعد أورويل، وليس السبب قوّة روايته فقط، بل الوضع السياسي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية في أوروبا، حيث سادت تقريباً في معظم الدول الأوروبية أنظمةٌ ذات طابع ديمقراطي حاولت تجاوُز وضع الديكتاتور.
وربّما استطاعت السلطة نفسها أن تُغيّب حضورها المباشر، في الحياة اليومية للأفراد والجماعات، فضلاً عن سيادة القانون الذي يحمي حرية التعبير والتنظيم والاعتقاد. أظنّ أن غياب رواية الديكتاتور عن الأدب الأوروبي منذ النصف الثاني من القرن العشرين، يُشير أيضاً إلى أحد أشكال التعبير عن علاقة الرواية بالمجتمع. إذ لم يعد الموضوع نفسه مطروحاً بوصفه أولوية تمسّ حياة الناس هناك.
وأظنّ أيضاً، أن أورويل لم يكن يُشير إلى ستالين وحده، بل إلى هتلر وموسوليني أيضاً، بوصفهما ممثّلين لاحتمالات التحوّل المتوحّش للرأسمالية التي تنتهك الديمقراطية، وحقوق الإنسان، إذا ما أُتيح لها ذلك. لا تبتعد رواية أميركا اللاتينية، بدورها، عن هذا الموضوع، فتاريخ القارّة حافل بوجود الأنظمة العسكرية، أو أنظمة الاستبداد التي كانت تُمارس كلّ صنوف القهر والقمع ضدّ شعوبها، وضدّ ثقافة الحرية فيها. واللّافت أنّ الرواية هناك سجّلت حضوراً بارزاً للطاغية، فقد ظهر كشخصية رئيسية في رواية "السيد الرئيس" لأستورياس، كما كان شخصية محورية في "خريف البطريرك" لماركيز، و "أسلوب المنهج" لكاربنتييه، و"تيرانو بنديراس" لإنكلان، و"حفلة التيس" لفارغاس يوسا.
قلّما وُجدت رواية عربية تسير في خطّ بعيد عن فكرة السلطة
ولكن الرواية العربية تُسجّل غياباً واضحاً لشخصية "الأخ الأكبر"، ولا يظهر كشخصية روائية مستقلّة في أي عمل روائي عربي مهمّ، على الرغم من مرور العديد من الأشخاص الذين كانوا يمثّلون في الحُكم الكثير من الخصوصيات والوصفات الصالحة للظهور في الرواية، منذ فجر استقلال البلاد العربية حتى اليوم. علماً أنّ المجتمعات العربية لا تزال ترزح تحت وطأة الحضور المتسلّط القوي لشخصية "الأخ الأكبر"، أو لتمثيلاته الأُخرى، كالأب أو الأخ أو العائلة أو القبيلة، بحيث يبدو أن من الصعب على الإنسان العربي أن يتحرّك، أو ينمو، أو يعيش، خارج هذه الحدود.
واللافت هو أن الرواية العربية رواية سياسية بامتياز، وقلّما وُجدت رواية تسير في خطّ بعيد عن فكرة السلطة، حتى لو كانت تحكي عن الحبّ، فالحبّ نفسه يُمكنه أن يوجد في الأمكنة التي كسبت حرّيتها، في العلاقة المُفردة بين رجل وامرأة. بينما تراه هنا، وخاصة في الرواية، لا يستطيع التنفّس، أو الولادة، أو الاستمرار دون أن تكون في الخلفية من الحكاية عينٌ مراقبة، أو يدٌ مُعاقبة، بل إن معظم قصص الحبّ العربية تأذّت من فكرة السلطة، أو من الوجود المسيطر لسلطة قادرة على منع، أو إعاقة، أو تدمير علاقة الحب.
* روائي من سورية