في كتابه "نظرية الدكتاتورية" (2019)، يتخذ المفكّر الفرنسي ميشيل أونفري طريقة طريفة في استخراج "نظرية" حول كيفية اشتغال الدكتاتورية، فلا يعتمد على ما قاله مفكّرون في علوم السياسة وفلسفتها، ولا يعود إلى وقائع تاريخية، بل إلى رواية "1984" لـ جورج أورويل، فالعمل التخييلي هو في النهاية واقعٌ ممكن، وبالتالي له كل المقوّمات في أن يكون مصدراً لفهم عالمنا ولو جرى إنكار ذلك عليه. بحسب أونفري فإن "رواية 1984 كتاب في الفلسفة السياسية اتخذ شكل رواية" وأورويل صاحب فكر سياسي لا يقلّ قيمة وأصالة عن ميكيافيلي وهوبز وروسو.
يُمكن استحضار زاوية قراءة أونفري لـ"1984" ونحن نطالع رواية "السيرة العطرة للزعيم" (دار التنوير، 2020) للكاتب التونسي شكري المبخوت، فالعمل يرسم كيف تشكّل "دكتاتور" من العدم وصولاً إلى حالة من السطوة الربوبية، ثمّ الخروج من دائرة السلطة كأنه لم يكن.
قبل التوغّل في سيرة "الزعيم"، يمرّ القارئ بتشكيلة من العتبات مُعدّة بعناية كي نبني صورة ذهنية أولى عن البطل قبل أن يبدّدها النص. تحيل كلمة "الزعيم" في سياق تونسي إلى الرئيس الأول الحبيب بورقيبة، وحين نفتح على فهرس الرواية سنجد عناوين فصول تدعم رأي من يذهب هذا المذهب، فنقع على "يوم النصر" و"يوم الجلاء" وعلى معارك العطش والكرامة مما حفل به الخطاب السياسي للزمن البورقيبي.
كما نقرأ في الغلاف الخلفي: "كان الوحيد الذي يستحقّ زعامة هذ الشعب (...) كان الوحيد الذي فهم روح هذا الشعب العظيم". لكن الأمر - في الحقيقة - لا يتعلّق لا ببورقيبة ولا بشعب أو دولة؛ فـ"الزعيم" في الرواية مُجرّد قائد طلّابي في إحدى الكلّيات ولم يمارس الدكتاتورية لعقود بل لبضعة أشهر قبل أن تذهب به "رياح التاريخ" تلك التي "تهبّ دائماً عكس مصلحة البلاد" كما ورد في كلمة الغلاف أيضاً.
تقودنا لعبة العتبات المُغالِطة إلى تتبّع خطوات "القائد الغريب"، العيفة بن عبد الله، منذ أن ظهر ذات يوم في أحد المدرّجات الجامعية متجرّأ على مقاطعة أستاذ ليصحّح تسمية حدث ما في درس التاريخ، ثم حين رفعته عبارة أحد كوادر التنظيمات الطلابية إلى موقعه الجديد: "أنت شخصية كاريزماتية، تصلح قائداً لنا"، ليتأقلم بسرعة مع وضعه الجديد؛ "فكأنه لم يُخلق إلا للقيادة التي أتته تجرّر أذيالها" بحسب عبارة المبخوت في روايته.
أي مبادئ للدكتاتورية نستخرجها حين نقرأ "السيرة العطرة للزعيم"
هكذا، ورغم أن العيفة أصبح زعيماً بالصدفة، إلا أنه أثبت منذ أن دُفع إلى "سدّة الحكم" بأنه زعيم بالفعل؛ فقد كان "جاداً في أداء دوره بل تقمّصه فعلاً ولم يعد يمثّل". مع هذا الانتقال السريع، يأخذ العيفة أبعاداً جديدة تفاجئ بقية الشخصيات حتى من كانوا وراء صعوده، خصوصاً شخصيّتان حاضرتان طوال الرواية ولكن بشكل غامض؛ المستشار والمسؤول على البروتوكول. شخصيتان بقيتا بدون اسم طوال النص ورافقتا "الزعيم" في مساره دفعاً به إلى السلطة قبل أن تضيقا لاحقاً من طغيانه، فقد كان الاختيار - بادئ الأمر - قائماً على بحث عن شخصية-واجهة، تكون ساذجة ومطيعة، لممارسة السلطة من خلالها، غير أن "الزعيم" سرعان ما انتزع زمام الأمور وقاد السفينة إلى حيث يريد هو. لكن إلى أين سارت الأمور؛ ذلك هو الزمن الروائي للدكتاتورية ومنه يمكن أن نقارب الزمن الحقيقي للدكتاتوريات التي تحيط بنا.
عبر قراءة "1984"، كان أونفري قد استخرج ما سمّاه بـ"مبادئ الدكتاتورية" وهي: تدمير الحرية، تفقير اللغة، نسف الحقيقة، إخفاء التاريخ، إنكار الفطرة، نشر الكراهية، توحيد الرأي. فأي مبادئ للدكتاتورية نستخرجها حين نقرأ "السيرة العطرة للزعيم"؟
لعلّ أوّلها يأتي مع بدايات الرواية، حين يتفاجأ الطلبة بـ"غريب" بينهم، فنتابع تحقيقاً عن هذا القادم من المجهول، ثم نكتشف بأنه بدون خبرة أو كفاءة خاصة إلا بعض الملامح المتناثرة التي يمكن صياغة صورة قائد من خلالها.
منذ أن يأخذ موقعه، يستدعي "الزعيم" سلطة التعليمات، فتتحوّل خياراته إلى مسارات تحدّد إيقاع يوم الآخرين؛ متى يستفيقون ومتى ينامون، ماذا يسمعون وماذا يقرؤون... وهكذا يتهندس العالم بحسب الصياغة التي قرّرها "الزعيم" لمن حوله، وهؤلاء - ومن بينهم المستشار والمسؤول عن البروتوكول - يحوّلون قواعد الزعيم إلى قواعد عامة يفرضونها على كل الطلبة، وبالتالي فإن مبايعة الزعيم يحمل وزرها حتى ما لم يقرّوا له بالزعامة.
تنهار أعصاب العيفة وقد سحب منه المبخوت بساط الزعامة بشكل مفاجئ
تقوم البطانة (يسمّيهم المبخوت بـ"الأصفياء من المناضلين") أيضاً بتحويل مفردات الزعيم ومواقفه إلى رأي سائد حيث تستعمل ما ينتقي من عبارات دون تحقّق من معناها ومقاصدها، فـ"هكذا هي الزعامة تحتاج إلى الإيمان بما يقول الزعيم الملهم وإلى ترسيخ أفكاره العبقرية بتكرارها حتى إن لم نفهمها" ومن ثم يؤمن الجميع بأنه "موسوعة بلاغية وعلمية ناطقة يتعلم منها الطلبة ما لا يتعلمونه في قاعات الدرس". لكن الأمر لا يعتمد فقط على هذه البطانة، ففي الكلية التي يقترحها المبخوت هناك تصوير لسلبية الطلبة (الشعب المصغّر للزعيم) حيث يشير إلى ميلهم للمحاكاة وخوفهم من "الانفراد والمحالفة التي تجعلهم أقلية دون قائد".
من جهته، يبدو "الزعيم" عارفاً بما يريد أن يسمع الطلبة، فهو يحرّك آمالهم في تحسين ظروفهم المعيشية ويعدهم بخوض المعارك لأجلهم. كما يعرف كيف يلامس الدفين في تطلعاتهم، وها هو حين يخوض انتخابات ممثّلي الطلبة يرفض كل تلك الأفكار البسيطة المكرّرة ويذهب رأساً إلى وضع بند يطالب بالسكن المشترك بين الذكور والإناث، في دغدغة طريفة لخبايا النفوس والغرائز.
انتصارات الزعيم المتتالية، المفبرك منها والجدير بها، جعلت منه محطّ رهان من قوى يفترض أن تناصبه العداء، من ذلك المجلس العلمي في الكلية وإدارة المبيت، وهو ما ضاعف من سلطته وهيبته، لكنه في المقابل قد بدأ يحتكّ بأفكار نقيضة لما يطرحه على الطلبة، وليدخل بعد ذلك في دوّامة من الخسارات تبدّد بشكل تدريجيّ شرعيّته، ثم تتسارع الأحداث بشكل جنوني توصل الزعيم إلى قلب الهاوية، وفي الأثناء يمدّنا المؤلف بكشف شامل على مواطن هشاشة العيفة فيضيء قلة معرفته بألاعيب المتلاعبين وعدم قدرته على ضبط نفسه أمام شهواته، كما يتوّغل في الإشارة إلى عقده الدفينة التي لم يعرف كيف يتجاوزها لتبقى مدخلاً محتملاً لدى من له مصلحة في هزّ "زعامته".
حين يعود الطلبة إلى ديارهم بعد امتحانات نهاية السنة الجامعية، يبدو الأمر وكأنه انفضاض وخيانة للزعيم. تنهار أعصاب العيفة وقد سحب منه المبخوت بساط الزعامة بشكل مفاجئ. وعلى الرغم من أن الأمر متوقّع، فلا زعامة دون طلبة، إلا أن الرواية تُظهر الأمر ككارثة شخصية يعيشها العيفة الذي يحوّله غياب الزعامة إلى حالة من الاختلال الذهني والنفسي، وثم يختفي من الكلية تماماً مع إشارة بكون المستشار والمسؤول على البروتوكول بدآ في الإعداد لمرحلة جديدة بعده.
يُرفق المبخوت روايته بتذييل، هو "ترجمة للزعيم"، فيحدّثنا عن كتاب يصدر في 2035 بعنوان "أعلام الثورة التونسية" وقد جرى إدراج مدخل ضمنه للتعريف بـ العيفة بن عبد الله باعتباره أحد وجوه الحركة الطلابية ومن أبرز قادة الثورة التونسية، فقد دخل السرية بعد اختفائه من الجامعة ثم ظهر مع الثورة عبر مواقع إلكترونية، ثم كان له دور في اعتصاماتها قبل أن يؤسّس حزباً ثم يختفي مجّدداً.
في كل هذه الملامح، تزخر رواية المبخوت بصنوف متعدّدة من السخرية، وهو لا يضع شخصية الزعيم وحدها تحت مرمى التهكّم الأدبي، بل مجمل العناصر المكوّنة للعمل؛ من شخصيات وفضاءات وعلاقات، كما يضع تحت مجهر السخرية تلك اللغة المستعملة في البيئة الجامعية، ومن ورائها الأدبيات السياسية المهيمنة ضمنها، وفي المجمل هو تهكّم من الحياة السياسية برمتها في نواتها الأولى؛ الجامعة باعتباره الرحم الذي تخرج منه النخب إلى مواقعها في البلاد.
ما يميّز هذه السخرية أنها تأتي بنبرة هادئة، وسبب ذلك أن حاملُها راو - هو طالب بلا هوية محدّدة - ينطلق من نظرة بريئة إلى حد كبير، نظرة ذات مسافة من كواليس الصراعات التي قدّمتها الرواية، فلا تنخرط مع أيّ موقف، فهو أشبه بمصوّر في غابة لا يعنيه سوى نقل ما يدور فيها ولا يتدخّل لإنقاذ فريسة من مخالب وحش أو يريد أن يفهم أكثر مما يرى أمامه. ولكن هذا الراوي كثيراً ما يتحفنا بقراءات وتأويلات وعبر.
ونحن نغلق العالم التخييلي لـ"السيرة العطرة للزعيم"، سرعان ما ننسى العالم المصغّر الذي اقترحه المبخوت لنفكّر في عالمنا المشترك. هل يقاوم القارئ مقارنة سيرة العيفة بن عبد الله بما يعرف من سير شخصيات سياسية واقعية؟ كيف يمسك هذا القارئ نفسه عن التخمين بأن "السيرة العطرة" لزعيم الرواية إنما هي تلميح إلى السير النتنة لزعماء الواقع، خصوصاً في هذه اللحظة من مسارات الحياة السياسية؛ التونسية والعربية، وحتى العالمية، حيث كثر المتهافتون والباهتون والتافهون في مواقع القرار.
كان أونفري قد أشار في "نظرية الدكتاتورية" إلى أن عصور ما بعد الشمولية لا تعني عدم وجود دكتاتوريين، لأن بذور الطغيان مبثوثة في الأرض ويمكن أن تنمو في كل وقت. ربما صار التونسيون اليوم على مسافة من حكم الطغاة (عشر سنوات من الثورة على حكم زين العابدين بن علي)، ولكن "المصنع" الذي أنتج طغاة الأمس لا يزال يعمل كما كان، وما أسهل أن يَنبت في أرضنا الطغاة أو مشاريع الطغاة. وفيما تطمئننا الرواية بأن مصيرهم السقوط، عاجلاً أو آجلاً، فإن النتيجة واحدة؛ أوطان تهدر الزمن في لعبة تسليم مقاليدها من زعيم إلى آخر.