في عام 1848، سيقوم أحمد فارس الشدياق برحلة طويلة إلى أوروبا، أودعها في كتابه "كشف المخبا عن فنون أوروبا"، وشملت تلك الرحلة على وجه الخصوص كلا من إنكلترا وفرنسا، وأتت عامرة بالمقارنات بين الشعبين والثقافتين.
وربما يكون للمدة التي أمضاها الشدياق هناك، الفضل الكبير في جعله يتمكن من إدراك تلك الفوارق وتلمسها والوقوف عليها. يكتب في مقدمة الرحلة ما يمكن اعتباره بيان تبرئة ذمة من أن يتعرض كتابه إلى سوء فهم أو إلى أفهام مغرضة من مترصديه، كان يزج به في دائرة التحامل على الأوروبيين، والعمل على إبراز المساوئ والوقوف على التفاصيل المثيرة أكثر من إدراك كنه الحضارة الغربية، الرائدة في العلوم والمعارف، والقوية في التنظيم الإداري وفي طرائقها السياسية التي ابتدعتها لتحكم شعوبها.
في تلك الفترة التي قام بها الشدياق برحلته إلى أوروبا، كان العالم العربي يعيش في أزمنة التخلف والتشرذم السياسي، وكانت دوله أو "مماليكه" بالتعبير التاريخي العربي، من الوهن الشديد والانكماش المريع، الذي سيعرضها لهجمات الأوروبيين المتربصين على شواطئها ومراسيها، في انتظار أكبر هجمة استعمارية ستعرفها المنطقة العربية، من طرف الإنكليز والفرنسيين والإسبان.
وكانت تلك الحملات قد بدأت بحملة نابوليون على مصر في 1798، وما استتبعها من نتائج على المنطقة العربية برمتها، ستتعضد مفاعليها ابتداء من أواسط القرن التاسع عشر، وخصوصا مع احتلال فرنسا للجزائر في 1830. وعليه، فرحلة الشدياق تأتي في هذا السياق الزمني، شديد التعقيد، وبالتالي، لا يمكن قراءتها إلا انطلاقا من مقومين: المقوم الأول، أنها رحلة وصفية، تحاول تعريف القارئ العربي وصاحب السلطة بما وصل إليه هذا الغرب الغازي من قوة وتنظيم وتحضر. والمقوم الثاني، أنه لامتلاك الندية لا بد من المرور من نفس المسار الذي سار عليه الغرب، وهو طريق العلم والتنظيم والإدارة الجيدة.
يكتب الشدياق مبرئا نفسه من كل تأويل خاطئ للمغرضين لرحلته "ليكن معلوما عند القاري، والسامع والداري، أني في كل ما وصفت به الإنكليز والفرنسيس وغيرهم من أهل أوروبا، لم يمل بي هوى ولا غرض بغضا أو حبّا؛ إذ ليس لي حذْل مع أحد منهم ولا ضلع، ولا انحراف ولا ميل ولا ضر ولا نفع، وإنما رويت عنهم ما رويت، وحكيت ما حكيت، بحسب ما ظهر لي أنه الصواب، فلا ينبغي أن يحمل قولي على ضغن أو إغضاب، وأعوذ بالله من أن أبخس الناس أشياءهم، فأتعمد القول فيما شانهم وساءهم، إلا أنه لا ينكر أن الإنسان محل النقص والمعيب، وأنه قل من ينظر إلى نفسه بعين المصيب، وكذا كنت أقول للإنكليز، فلم يكن أحد منهم ينكر قولي أو ينسبه إلى التعجيز، ثم إني بعد الفراغ من تحرير الرحلة المشار إليها عرضت عوارض كثيرة، وأحوال خطيرة، كحرب أميركا وبولاند مثلا، وكزيادة في عدد سكان الممالك أو في أعمالهم مما استعظمه الناس وصار لهم شغلا، من جملة ذلك ما جرى من الممالك الإسلامية من التحسين والتنظيم، والترتيب والتتميم".
الإتيكيت الباريسي
يكتب الشدياق عن الإتيكيت الباريسي، يقول "أما القهوة فإذا دخلت محلها جاءك الخادم بكوب سميك كالذي يشرب فيه الشوربة وبسكر جزيل، وصب القهوة بمرأى منك، ثم أتبعها بالحليب المسخن، وقد رأيت كثيرًا من ذوي السمت والرواء يضعون نصف السكر في الفنجان ويختبئون النصف الآخر، والمطاعم ومحال القهوة في هذه المدينة لا تحصى كثرة، وهناك محال للقهوة تغني فيها الرجال والنساء، يدخلها الناس مجانًا، ولكن بشرط أن يشربوا شيئًا يقوم عليهم قيمة شيئين. ومما يعجب منه في باريس الدكاكين التي يباع فيها المربيات والشراب: وذلك لنظافتها وأنوارها، وربما كانت سقوفها من مرايا، وعندهم من أصناف المربيات والمعجنات والحلويات ما يزيد على ما عند الإنكليز عشرة أضعاف، إلا أنهم مثل الإنكليز في أن حلوياتهم جميعًا معمولة بالسكر لا بالعسل. واعلم أن أرباب الرئاسة هنا يتعهدون صحة الرعية فيما يباع من المأكول والمشروب، فلا يسمحون للباعة بأن يبيعوا شيئًا فاسدًا أو مضرًّا بالأبدان أو مغشوشًا، وكأن الخمر مستثناة من ذلك، فلهذا كان كل ما يؤكل ويشرب هنا ألذ وأذكى مما يوجد بلندرة، بل البقول والفاكهة هنا أطيب وألذ، فمن ذلك الخبز وهو ألزم ما يكون للمعيشة، فإنه في غاية الطيبة، وهو من محض الحنطة غير مخلوط بشيء من الشب أو البطاطس كخبز الإنكليز، وقد يصنعون منه شكلًا في طول قامة الرجل، واللحم، على أن الإنكليز يدعون بأن لحمهم أطيب، ويعجبني هنا نظافة دكاكين اللحامين، فلا يمكن أن تشم منها رائحة كريهة، بخلاف دكاكين لندرة، وهم يقفلون دكاكينهم قبل أن يوقدوا الغاز، فإنهم يقولون: إنه يغير طعم اللحم. ومن ذلك الزبدة والجبن ومحار البحر على أنواعه، والزيت والخل والخردل واللبن، وقد يصنعون منه الرائب والقريشة كالموجود في بلادنا سواء، وكذا الصابون والشمع، بل الكبريت وحطب الوقود هنا أحسن مما يوجد بلندرة، وعندهم كثير من البقول والفواكه مما لا وجود له في تلك، فأما جعتهم فغير طيبة، ولكن قلما يشربونها لاستغنائهم عنها بالخمر. أما الهواء فبرد باريس ولندرة صنوان، غير أنه لما كانت الديار كلها مبنية هنا من الحجر وكانت مواقدها غير صالحة لوقود الفحم المعدني كما مر، كان البرد أشق وأبلغ وزد على ذلك توالي الأمطار شتاء وصيفًا، وقد شاهدت جمًّا غفيرًا حضروا من باريس إلى لندرة، وسألتهم عن الهواء، فكلهم أجاب: بأن المطر لم ينقطع مدة إقامته، وكان فيها بلندرة صحو إلا أن الناس لا يشعرون في باريس بِعَنَت المطر أو الثلج؛ لكثرة ما فيها من السقائف والمنتزهات ومحال القهوة مما يذهب بالكرب، أما في لندرة فلن يجد الإنسان من ذلك مهربًا إلا في بيته، وهذا حَسْب".
ملابس أهل باريس
أما ملابس أهل باريس فإنها في الجملة وضيئة فاخرة، وأكثر أنواع الثياب التي تباع عند البزازين ولا سيما الحرير أحسن مما يوجد بلندرة إلا الكتان، فأما الملابس المخيطة فليس لعمري من مناسبة بين ما يباع هنا وما يباع في لندرة، فإن من يشتري ثوبًا مخيطًا في لندرة يلزمه أن يستأجر معه خياطًا ليصلحه له في كل يوم، ولأهل باريس تَنَطُّس زائد في أشياء كثيرة مما لا يعبأ به الإنكليز، إلا أن نساءها اللواتي يعشن من كد أيديهن يلبسن أحذية كأحذية الرجال — وذلك منكر في لندرة — وإذا خرجن في الأسواق خرجن من دون برنيطة ولا شال. وللاكتفاء عن البرنيطة سببان؛ الأول: الزهو والعجب، فإنهن يعرضن شعورهن وأعناقهن للرنو والتعجب، والثاني: غلاء سعرها، حيث كانت أجرة اللائي يصنعنها كثيرة، فإن صناع باريس تكسب أكثر من صناع لندرة، وبعكس ذلك الرجال، وهاتان الصفتان من المنكر أيضًا عند نساء لندرة.
مواسم الحظ والفرح
ومن مواسم الحظ والفرح عندهم ثلاثة أيام في المرفع، وهي التي يسمونها الكرنيفال، وقد ذكرناها في الكلام على مالطة، فلا ينبغي إعادتها، وإنما نقول هنا: إنه في هذه الليالي يدومون في المراقص حتى الصباح، وفي يوم خميس السكارى يطوفون بثور مسمن، وأمامه طائفة الجزارين بلباس السخرية، ويغطون الثور بثوب مزركش، وعلى رأسه إكليل من الزهر، وكانت العادة سابقًا أن يقعد على ظهره ولد يسمونه ملك الجزارين، ويمسك بإحدى يديه سيفًا وبالأخرى صولجانًا، فأما الآن فإنه يقعد في نحو مِحَفَّة ويتبع الثور بلا سيف ولا صولجان. ومن ذلك عيد رأس السنة، وهو ثلاثة أيام، ترى فيها جانبي البلفار مشمولًا بالخيام لبيع التحف والطرف التي يتهادى بها، وترى أيضًا غيضة شانزلزي مشحونة بظلل وقبب وأخبية فيها جميع أنواع الطرب والشعوذة والرقص على الحبال، ثم ترى من بدائع المصنوعات والمخلوقات ما لا تراه في المملكة كله.
وقد رأيت مرة امرأة جميلة ذات لحية وشوارب وعلى قفاها وذراعيها من الشعر ما لم يكن على رجل، وكأنها هي التي ذكرها صاحب المعجم حيث قال: أرسلت امرأة إلى باريس لها لحية كثيفة وجميع بدنها مغشي بالشعر. قال: وقد علم أن نساء كثيرة لهن شوارب ولحى وشعر مسترسل على أكتافهن وسواعدهن من جملتهن امرأة أتي بها إلى حضرة بطرس الأكبر وكانت لحيتها نحو ذراع ونصف. وفي الخامس عشر من أغوسطوس تصنع الدولة عيدًا حافلًا يحشد إليه مئات ألوف لرؤية الأنوار وشهب البارود.
نساء الفرنسيس
والنظافة ولنساء الفرنسيس نظافة زائدة على الملبوس والمفروش، فكل ما كان لونه البياض يبقى كذلك إلى أن يبلى، ولكن ليس لهن من الطهارة نصيب، ولهن أيضًا عناية بليغة بتنضيد أثاث البيت، وبهن تليق جميع الأعمال، وفي الواقع فإنهن أركن وألقن من سائر نساء الإفرنج، وما من امرأة في باريس إلا وتعرف شيئًا من المداواة، ومن طبعهن التبكير في القيام وتنظيف مراقدهن بخلاف نساء لندرة فإن الغالب عليهن الكسل والتواني والإضحاء في النوم، ولهن أيضًا حرص على تربية أولادهن وتنظيفهن، فلا تكاد ترى في أسواق المدينة أطفالًا يمشون وحدهم، أو يطوفون في الليل ويعرضون أنفسهم لخطر العجلات وسائر المراكب كما ترى في لندرة. وهن اللائي يتولين الدخل والخرج، فلا يمكن لأحد أن يشتري شيئًا من المأكول والمشروب — ما عدا الخمر — إلا من أيديهن، وإن تكن بعولتهن حاضرة، ولهن مزية مشهورة بين الناس في النطق بالمغيبات، كما يزعمون، وإذا استنطقت واحدة منهن لزمك أن تعطيها عشرة فرنكات، ولم أسمع عن نساء لندرة هذه الدعوى الشائعة عن نساء باريس. وقد اتفق لي مرة أن سرقت لي كراريس من كتاب ألفته، وعزمت عدم إفشائه، فقلقت لذلك كل القلق، ثم رد عليَّ بعضها من لندرة، فأخذني الذهول، فلما أطلعت بعض أصحابي على ذلك، قال لي: عليك «بالسمنمبول» فذهبت معه إلى واحدة ممن أعرفهن، وكان هو أيضًا يريد أن يسألها عن حاجة مهمة له، وتبعنا آخر لم يكن له مأرب سوى الامتحان فقط، فلما سألناها حضرت امرأة أخرى وجلست بين يديها، وأمسكت يدها اليمنى، ثم جعلت فيها كرة صغيرة من بلور، وجعلت تحدق النظر في المرأة. وبعد عدة دقائق غمضت المسئولة عينيها، ثم تنفست الصعداء وأشارت إلينا بالجلوس وعيناها مطبقتان فناولتها حينئذ قطعة من الورق، وأخبرتها بما جرى من السرقة، فشمتها، وقالت: «هذه القطعة أرسلت إليك من بلاد بعيدة مع أوراق أخرى يخالف لون بعضها بعضًا وأصل شرائها كان من تلك البلاد». قلت: نعم، ولكن أريد أن أعرف من سرقها؟ قالت: «أين كان مسكنك حين سرقت؟»، قلت: في روبلانش، قالت: «نعم في الطبقة الثالثة، وقد سرقها رجل كان كثير الترداد عليك». قلت: من هو؟ وكيف هو؟ قالت: «ليس هو بفرنساوي، بل غريب مثلك». قلت: ما زيه؟ قالت: «ليس كزينا ولا كزيك، وإنما يلبس رداء طويلًا». قلت: ما سنه؟ قالت: «في حد الثلاثين». قلت: بل أكثر من ذلك بثماني سنين، ففكرت هنيهة، ثم قالت: «لست أراه إلا كما قلت لك». فكانت صادقة في كل ما قالت إلا في السن، ويمكن أن يقال إن ذلك الشخص لم يكن يظن فيه ناظره أنه جاوز الثلاثين. ويقال: إن هؤلاء المنبئات إنما ينبئن كما يضمره السائل، فإني كنت أضمرت شخصًا كان على تلك الصفة، وكان يتردد عليَّ كثيرًا وجزمت بأنه هو الذي فعل الفعلة، ثم تنصتت لحس معدتي، فقالت: «إن هذا الشخص الذي سرق الورق صديق لمطران حاول مرة أن يسمك باطلاع ثلاثة رجال معه». ثم إني وضعت بيدها خصلة شعر من شعر امرأة، وكانت وقتئذ مريضة بداء الخفقان، وقد قاست من الأوجاع والأطباء ما يطول شرحه، فأخذت الشعر وشمته، وقالت: «هذا شعر امرأة مريضة وأصل مرضها في المعدة والقلب، وقد مس هذا الشعر امرأة أخرى». قلت: صدقت، ولكن لا أعلم أن امرأة أخرى مسته، قالت: «بلى قد لمسته، وإن صاحبته صارت عرضة للإسقاط والولادة تسع مرات، وهي ذات نشاط وحدة، فإذا غضبت تخرج عن المعقول، ويخشى عليها من اللَّمَم، فينبغي أن تداريها وتحوطها، وتستعمل لها العلاج الفلاني».
ثم سألها صاحبي القلق بعد أن ناولها أثرًا من المسئول عنه فقالت له: «إنك تقيم في باريس سنتين، بعد ثم تسافر إلى بلادك». وكذا وقع له، أما الثالث فإنه سألها عما في جيبه، فقالت له: ورق، قال: على أي شيء يشتمل؟ قالت: «أنا لا أحسن القراءة حتى أنبئك بما اشتملت عليه». قال: منذ كم قدمت إلى باريس وما أشبه ذلك؟ قالت: «قد استحوذ عليَّ صداع». ولم تجاوبه بأكثر من ذلك، وخرجنا من عندها وهي على تلك الحالة، ثم إني لما رجعت أخبرت المريضة بما وقع فقالت: أما الشعر فقد لمسته الخادمة، وأما الإسقاط والولادة فكما قالت.
ويقال: إنه حين تكثر السؤال على المسئولة تضعف قوتها ويخدر إدراكها، ثم إنه لما كانت هذه الحرفة مضادة للديانة وللطب، كان القسيسون والأطباء أشد الناس مقاومة لها، ولقد عجبت كيف أن الدولة تسوغ معاطاتها إن لم تكن حقًّا؟! فإنا إذا اعتقدنا بصدق ما تقوله هؤلاء النساء لم يكن بينهن وبين الأنبياء من فرق، إلا أن نقول: إن إنباءهن غير وارد في الإلهيات، وإن يكن تدجيلًا وتمويهًا فلِمَ لمْ تمنعهن الدولة من غبن الناس، واختلاس أموالهم، ونحكم بخروجهن من الجماعة أخذًا بنص التوراة؟! على أن بعض المتفلسفين في باريس يدعون أيضًا بأن في الإنسان خاصية أو جاذبية تسري منه حتى إلى الجماد فينفعل بها فضلًا عن تأثيره في إنسان نظيره، وعلى ذلك شاعت الأخبار بأن الموائد تميد بلمس عدة رجال لها، وأن الكراسي تمشي، والسكاكين ترقص إلى غير ذلك. والذي يخطر لي — على قدر ما أدركه — أنه كان ينبغي امتحان هؤلاء النساء، وبعد ذلك إما أن يحظرن أو يقررن على صنعتهن، وقيل إنهن امتحن فوجدن صادقات في أمور كثيرة، حتى لم يمكن حظرهن، وإنه إنما رخص لهن في الإنباء رجاء أن تظهر وسيلة أخرى لإتقان هذه الحرفة، حيث لم يستبعد ذلك على تمادي الزمن. أما ما قيل عن بوسكو فلم أرَ من شعوذاته ما يصدق كلام الناس فيه، فإن كل ما صنعه أمام الناس لم يصنعه إلا بأدوات، وقد شاع عن روبرت أودن أنه كان عنده زجاجة، وكان يسأل الناس أي شراب يبغون منها، فكان كل يقترح عليه شيئًا فيسقيهم كلهم منها، ثم رأيت هذه القناني تباع بثمن غالٍ، ولا أدري شأنها والله أعلم.