زينب الحكيم، صحافية مصرية وناشطة نسوية معروفة، قامت برحلة إلى العراق في عام 1938، بمناسبة مشاركتها في المؤتمر الطبي العربي الأول الذي انعقد في بغداد يوم 9 شباط/ فبراير من ذلك العام، ونشرت بعض فصولها في مجلة الرسالة القاهرية، وهو ما يعد وثيقة تاريخية مهمة تتعلق بتاريخ العراق، وقبيلة شمّر وشيخها عجيل الياور. إذ زارت مضارب القبيلة، وكتبت عن عاداتهم ومحاولات الشيخ عجيل لتوطين أبناء قبيلته في قرى، وترغيبهم في الزراعة، كما تطرقت لبعض أحوال نساء القبيلة، وأبدت إعجابها الشديد بابنة الشيخ الوحيدة؛ الشيخة ملك.
ويمكن القول إن زينب الحكيم التي درست في لندن وتخرجت مختصة برياض الأطفال عام 1920، هي واحدة من أكثر الناشطات النسويات المصريات راديكالية، فقد كانت تخوض المعارك مع جميع من كانت تسميهم أعداء المرأة، ومن ذلك معركتها مع الكاتب توفيق الحكيم الذي كتب مقالاً يتهكم فيه على دعوات المساواة بين الرجل والمرأة، يقول فيه إن على "الزوجة الحديثة أن تعرف على الأقل أن تهيئ الطعام لزوجها"، فما كان من كاتبتنا إلا أن سطرت رداً نارياً على الأديب توفيق الحكيم نشرته في مجلة الرسالة بعنوان: "أمر من زينب الحكيم إلى توفيق الحكيم"، حيث ظل لقب عدو المرأة ملازماً له طوال حياته، رغم محاولاته اللاحقة لتوضيح موقفه.
من بغداد إلى الموصل
بعد أن أمضت في بغداد أكثر من شهر بعد المؤتمر، التقت خلال ذلك الملك غازي بن فيصل، بدأت زينب الحكيم رحلتها إلى ديار قبيلة شمّر في الرابع عشر من آذار/ مارس 1938 مستقلة القطار إلى كركوك، فوصلت إليها بعد تسع ساعات، لأن سرعة القطار كانت 25 كيلومتراً في الساعة كما قالت، من كركوك أخذت سيارة إلى الموصل، فقطعت 160 كيلومتراً في طقس ماطر وطرق موحلة. وفي الموصل أمضت ثمانية أيام اطلعت فيها على معالم المدينة التاريخية والإنشائية، وجزء كبير من بلداتها، كبلدة تلكيف، والشيخ عدي، والعمادية وغيرها، وكان دليلها في هذه الزيارة رئيس بلدية الموصل آنذاك خير الدين بك العمري، حيث رافقها لزيارة بساتين الموصل الغناء، ومبانيها الجديدة المشيدة، وشوارعها المرصوفة الواسعة. وأثناء وجودها في الموصل أرسلت خبراً للشيخ عجيل الياور، شيخ مشايخ قبيلة شمّر، بأنها ترغب بزيارة معاقله، فأبدى ترحيباً، وقال إنه سيرسل لها سيارة من سياراته الخاصة الفخمة لتحملها من الموصل إلى خيامه، غير أنها شكرت الشيخ وأخبرته بأن معها سيارة.
وفي صبيحة الثلاثاء 22 آذار/ مارس انطلقت من الموصل باتجاه تل أعفر، الواقعة في منتصف الطريق بين الموصل ومضارب قبائل شمّر في الشرقاط. وتقول إنها رأت في طريقها النسوة "يغسلن الأواني والثياب على ضفتي نهر دجلة، وأدهشتني طريقة غسل النسوة للملابس، إذ تمسك كل امرأة مطرقة خشبية لدق الثياب، ولست أفهم الصلة بين إزالة الأوساخ من الثياب وبين دقها بذاك المضرب الخشبي وهي موضوعة على صخرة سوى تمزيقها، ما لم يكن لديهن سر لا نفهمه". وفي تل أعفر كان رجال الشيخ الياور بانتظارها، حيث اصطحبها دليل الشيخ. في طريق رديء وسط انهمار الأمطار التي كادت ان تغرق السيارة، كما تقول، علماً أن الشيخ الياور قضى بعد عامين من هذه الرحلة في المكان نفسه ونتيجة لغرق سيارته بالأمطار.
في ضيافة شيخ شمّر
وعند الوصول كانت سيارة الشيخ عجيل بانتظارها فقال لها: "أهلاً ومرحباً، ها هو ذا المطر قد كف، والسماء بدأت تتكشف، والعاصفة أخذت تهدأ. إن في مقدمكم الخير بنزول الغيث فما أكرمه من مقدم". ثم قال لها الشيخ صفوك بن عجيل بلغة إنكليزية: "مرحباً بكم. إننا سعداء جداً برؤيتكم هنا". وتقول: "قال ذلك بلهجة إنكليزية أميركية، فذهلت، شيخ بدوي يرتدي الملابس البدوية والعقال، وبينه وبين الحضر أميال وأميال، أو إن شئت فقل بينه وبين العالم والحياة أجيال، يكون هو هذا المتكلم المداعب في لباقة ولياقة؟".
وتقول إنها أبدت استغرابها من رجل الصحراء، يتكلم الإنكليزية، فصحح لها إن أرضهم تدعى بادية ميزوبوتاميا، وليست صحراء. وتضيف: "هذا تصحيح من رجل البادية، عرفه بالتجربة العملية وليس من الكتب، ورجل البادية ولو أنه محدود التفكير إلى حد كبير لبيئته وظروفه، إلا أنه كما لحظت حاد البصر نافذ البصيرة متوقد الذكاء كريم، له استعداد قوي للتقدم، ولكنه شديد الرضى سريع التسليم. ومن أهم ما لفت انتباهي اعتماده على القدرة الإلهية، أو على من يتوسم فيه رعاية مصالحه؛ وكل البدو في هذه المناطق خاضعون للنظام العشائري البحت، ويأبون تدخل الحكومة في فض مشكلاتهم من أي نوع، ولو فرض وكان لبعضهم مشكلات تصل إلى المحاكم في بغداد أو غيرها مثلاً، فشيخ مشايخ شمّر أو ابنه، هو الذي يمثل هؤلاء أمام الجهات المختصة ويدفع عنهم ويفض هذه القضايا. ولهذه الاعتبارات وأشباهها تخضع القبائل لرئيسهم خضوعاً تاماً، وهو يسهر على مصالحهم. علماً أن زينب الحكيم تخبرنا في أحد فصول الرحلة أن الشيخ صفوك خريج الجامعة الأميركية في بيروت".
مشاريع الشيخ
وتبدأ زينب في تعداد المشاريع التي بدأ بها الشيخ عجيل الياور؛ لتوطين قبيلته منذ عام 1930 في مراعيها، حيث كان يطالب بأرضها لهم من الحكومة العراقية، بحيث تكون وجهتهم احتراف الفلاحة؛ وقد تمت هذه الصفقات لبعضهم فعلاً، وشجعهم الشيخ الياور على ذلك بشراء بعض الآلات الزراعية من ماله الخاص، مثل المحاريث التي استجلبها من ألمانيا في أثناء زيارته الأخيرة لأوروبا، كما تقول. وتضيف بأنه ساعدهم على شراء بعض المواشي، وبذور النبات، وغرضه من هذا كله أن يسهل لهم احتراف الفلاحة وتحبيبها إليهم. ولكنها تلفت النظر إلى أن هذه التجربة لم تسفر عن نجاح يوازي ما بذل من مساعدات وتشجيع. ومع هذا استقر كثير من رؤساء العشائر في بعض القرى التي كونوها.
التلاميذ ومصر ودرس اللغة الإنكليزية
من المشاريع التي شجعها الشيخ عجيل كما تقول زينب الحكيم إنشاء مدرسة ابتدائية وسط البادية تقول عنها: "بدأت في العام 1932 أهلية حيث أنشأها الشيخ عجيل الياور على نفقته، وبدأت بعدد قليل من الأولاد، ولكنه عظيم بالنسبة لعوامل البيئة هناك. فافتتحت لخمسة وعشرين إلى ثلاثين ولداً من أبناء البدو، ومن بينهم أولاد المشايخ بالضرورة، يذهبون جميعاً لتلقي الدروس بالأمر المشدد من الشيخ وأمره مطاع، وإن خالف ذلك ميولهم الخاصة. وشجعهم الشيخ بمنحهم السكن والملابس. وسارت المدرسة في سبيل التقدم، وسعى الشيخ لأن تدخل تحت إشراف الحكومة العراقية حتى تفوز بمنهج منظم، وأساتذة فنيين، وفعلا في سنة 1934 أي بعد سنتين من إنشائها، صارت مدرسة حكومية تمدها وزارة المعارف العراقية بالمعلمين والأدوات المدرسية. ومن حيث الأثاث، هي عبارة عن خيام بيضاء كبيرة، ومناضد ومقاعد لجلوس الأولاد، وسبورات مع حواملها. أما أدوات الطلاب فلا تزال على نفقة الشيخ. وصار عدد تلامذتها الآن من 50 إلى 80 تلميذاً يتناقص أو يتزايد العدد بين هذين الرقمين".
وتشير زينب الحكيم إلى وجود بعض البنات بين الأولاد، حيث كان في المدرسة ستة صفوف، وتتراوح أعمار التلاميذ بين ست، وست عشرة. وتقول إنها وجدت خريطة كبيرة للقطر المصري معلقة على السبورة، وبدأ الأستاذ يناقش تلاميذه في معلوماتهم عن مصر، فكان ذلك حسن ذوق ومجاملة لطيفة منه، كما تقول. ولذلك انتهزت الفرصة وخاطبت التلاميذ: "ربما لم يسبق لكم يا تلاميذ رؤية مصرية قبلي؟! فقالوا: لا، ونحن سعداء برؤيتك. فشكرتهم، وقلت: أو كنتم تتخيلون المرأة المصرية كما رأيتم الآن؟ قالوا: لا، كنا ننتظر رؤيتها في ثياب سوداء، فإن من العيب أن تلبس المرأة الثياب الملونة، ولا سيما ما كان منها أبيض. قلت: لماذا؟ فقالوا: إن اللون الأبيض من سمات الرجل، أما المرأة فلها الثياب السود. قلت: وهل تريدون أن تسألوني شيئاً عن مصر؟ قالوا بشوق: نعم. كيف حال فاروق الملك الشاب؟ وهل هو تقي؟ وهل هو يشبه سيدنا غازي الأول؟ وهل فرح بالزفاف الملكي؟ لقد وصلت لهم أخبار الزفاف كلها وسمعوا حفلاته بالمذياع ملك شيخهم، فأجبتهم عن كل أسئلتهم، وقد أصغوا إليها في شوق زائد وسرور وغبطة".
ومن الأشياء التي أدهشتها درس اللغة الإنكليزية الذي كان يتكون من مطالعة، ومحفوظات، وتركيب جمل، وقد لاحظت التقدم الكبير على التلاميذ، ولفت نظرها توقد ذكاء تلميذ من بينهم، وشدة لمعان عينيه، فسألت: من يكون هذا التلميذ؟ فقيل لها: إنه ابن الشيخ عجيل الياور الذي ساح في أوروبا كلها مع والده بعد حضور حفلات تتويج ملك الإنكليز جورج السادس في العام 1937، فسألته عما أعجبه أكثر من غيره من البلاد الأوروبية؟ فقال في إيجاز وتأكيد: "أعجبت بسويسرا لجمالها، وإنجلترا لتقاليدها ونظامها، وألمانيا لاختراعاتها ونظامها ونظافتها" وتقول إن هذا التلميذ موجود الآن بكلية فكتوريا بالإسكندرية هو وأخوه، حيث أحضرهما إلى مصر، أخوهما الأكبر الشيخ صفوك الياور، وألحقا بهذه الكلية من بدء العام الدراسي. وكانت مفاجأته لنا بالزيارة حلماً تحقق".
في قسم الحريم
في وصفها لقسم النساء تقول: "خباء من الشعر في أحد أطراف الدار عن يمين الداخل إليها طالما تخيلناه وتمنينا رؤيته، وضع في الجهة اليسرى منه نوع من السرير العريض، عليه فراش وثير مغطى بغطاء من الحرير الخالص الملون. وإلى جانبه زرابي مبثوثة على الأرض المغطاة بالسجاد العجمي، وتحت السرير حقائب وصناديق، تبينت فيما بعد أن بها ملابس وحليا، وحلوى تقدم للزائرات".
وتضيف: "كانت السيدة الأولى التي استقبلتني ابنة الشيخ عجيل الياور، وهي فتاة رائعة الحسن: لون خمري جميل، وخد أسيل، ولحظ كحيل، ووجه مستدير عليه وشم قليل. إذا تكلمت فكأنما صوتها موسيقى الجنة العذبة قد انبعثت إلى عالمنا، دلال في وقار كالنسيم إذا سرى، وكالزهر إذا تمايل. اسمها ملك وهي ملك حقاً، تفيض رقة إذا حودثت، وتذوب عاطفة إذا استلهمت، حياء في غير تصنع، وشمم في غير تكبر. عرفتني بعدد من زوجات أبيها وأخيها، كلهن كحيلات الطرف أو متكحلات، يغطى الوشم الأخضر أجزاء من وجوههن وأجسامهن، فمنهن من غطى كل ذقنها برسومه، أو زججت حاجبيها به، ومنهن من وشمت شفتها بحيث لا تظهر حمرتهما، وإنما اندمج لون الوشم مع لون الشفاه فصار اللون أخضر داكنا. وبعضهن طرزن قبب أعينهن برسوم غريبة، هذا والحناء تخضب أناملهن وأكفهن وكعوبهن. أما ملك فكانت في زينتها وأناقتها تفوقهن جميعاً رقة ودقة وملاحة". ويبدو أن زينب الحكيم أعجبت جداً بهذه الفتاة فدعتها لزيارة القاهرة، ولكن ذلك كان مستحيلاً كما فهمت من شقيقها، وقد استغلت الفرصة وارتدت ثياباً بدوية من أزياء بنت الشيخ، وتصورت بها للذكرى.
طعام البدو
أفردت رحالتنا حيزاً للحديث عن طعام البدو، فوصفت وجبة العشاء التي قدمت لها في يومها الأول وكانت في خيمة بيضاء كبيرة أقيمت في وسطها مائدة أنيقة الترتيب إفرنجية. وكان الخدم يقدمون ألوان الطعام على أحدث نظام، فقالت للشيخ أنها تريد أن تتناول الطعام على الطريقة البدوية، فقال لها في الصباح تأكلون كما البدو. ولكن الإفطار كان أيضاً على الطريقة الأوروبية، ولكنه وعد أن يكون الغداء بدوياً.
وقد وصفت ذلك بقولها: "عند الساعة الثانية عشرة ظهراً دعينا لركوب السيارات، وإذا بها تسير بنا من حيث خيام الشيخ إلى قلب البادية، فقطعنا نحو عشرة أميال على بساط سندسي جميل على أرض مستوية ثابتة، حتى وصلنا إلى مجرى ماء بجري في مساحة طويلة وسط البادية، وهناك وجدنا عبيد الشيخ، قد فرشوا سجادة عجمية نفيسة حمراء اللون، قرب مجرى الماء. ووضعت صينية كبيرة فضية وعليها حَمَل محمر، ومعه أرز الزعفران المزخرف بالكشمش. وقال الشيخ: هكذا يكون أكل البدو، وضرب بيمناه في الأرز المحشيّ به الحمل، وأخذ منه كمية طيبة إلى فمه، ثم بدأ يوزع علينا من اللحم الشهي. فكانت أكله بدوية بحته، بين مظاهر الطبيعة الخلايا، والنفوس العربية الكريمة والأيدي السخية".
المرأة الكردية
بعد الغداء انتهت زيارة زينب الحكيم للبادية، فركبت سيارتها متوجهة إلى الموصل، وفي طريقها استذكرت الليلة الصعبة التي مرت بها في مضارب الشيخ، إذ لم تستطع النوم رغم كل الاهتمام والرعاية اللذين حظيت بهما، وحاولت أن تفسر سبب أرقها بأنه قلق ناتج عن بعض الأوهام. ويبدو أن زينب الحكيم قد توجهت بعد الموصل إلى السليمانية عاصمة كردستان، حيث اعتبرت أن رحلتها إلى كردستان من أعظم المخاطرات وأكثرها فائدة، بالنسبة لها، ذلك لأنها اكتشفت عالماً مجهولاً للكثيرين. ومن أبرز ملاحظاتها على تلك الزيارة علاقة المرأة الكردية بالرجل الكردي، إذ لاحظت من خلال نص شعري للشاعر الشاب، يومها، عبد الله سليمان كوران، يمثل حوارية بعنوان الوردة الدامية، حيث تقول إن النص الشعري الذي صاغته بلغة عربية جميلة يعبر "ضمناً عن ناحية من نواحي نفسية المرأة الكردية المعروفة بقوة الإرادة والشجاعة والحسن الفائق، والنفسية المرحة السامية، والعقلية الخصبة على جدب معينها العلمي، وقسوة بيئتها وإن عوضها جمال مناظر جبالها، وجودة هوائها، وكثرة ثمارها كثيراً مما تفقده من أسباب الحياة الرغيدة، ونور العلم وميزات المدينة".
وتضيف: "المرأة الكردية على غمرة عواطفها أمينة في الحب، قاسية فيه، مضحية إلى الموت، ولكنها صلبة الرأي إلى درجة شاذة انتصاراً لمبدأ أو إخلاصاً لحبيب أو صديق، كما أنها على لطافة خلقها شرسة منتقمة إذا أرادت".