الغيرة هي من أكثر المشاعر العاطفيّة تعقيداً. لا يوجد شخصٌ، لم يختبر مرّة واحدة على الأقل في حياته مشاعر غيرة حقيقيّة. الغيرة العاطفيّة هي الأعمق، لأنّها الأكثر التصاقاً بـ"الأنا". المكابرة على مشاعر الغيرة والتعالي عليها، غالباً يكون لإظهار قوّة الذات. الغيرة انكشافٌ لهشاشة النفس، وإنكارها قادمٌ من خوف ظهور إحساس الضعف إلى العلن. في هذا النص، نعرض ظاهرة الغيرة من أربع وجهات نظر، ثلاث منها من داخل الفلسفة الفرنسيّة تحديداً، مُرتّبة زمنياً.
"الغيرة هي نتاج العيش في المجتمع البرجوازي"
شارل فورييه (1772- 1837)
عند فورييه، الغيرة استحواذٌ على الآخر وتحويله إلى ملكيّة. والملكيّة هي المعطى الأكثر محوريّة في المجتمع البرجوازي الذي يعتمد على نمط الإنتاج الرأسمالي. معروف أنّ فورييه كان راديكالياً على الصعيد الاجتماعي، وثورياً على الصعيد الثقافي. في ذلك الزمن، دعا إلى إلغاء مؤسسة الزواج والمساواة الكاملة بين الجنسين. الغيرة داخل النفس هي انعكاس لظاهرة الملكيّة في العالم المادي خارج النفس. الغيرة مرتبطة بالظروف الماديّة الموضوعيّة للبشر، وهي نتاج اللامساواة في أحوالهم. "المدينة الفاضلة" عند فورييه مجتمعٌ يُعتمَد فيه نظام الدخل الثابت غير المشروط (الحد الأدنى الأكيد)، والذي يحق لأيّ إنسان أن يناله بغضّ النظر عن فاعليّته في الاقتصاد، تماماً كالحق في التعليم. "الحب الحر" لا ينشأ إلاّ في مجتمع تسوده العدالة الماديّة، لأنّ التباين في الظروف الماديّة سيلقي بظلاله على خيارات البشر العاطفيّة. نزع مفهوم الملكيّة من العالم الماديّ، سينزع ظاهرة الغيرة من داخل النفس.
"الغيرة تستّر على المثلية الجنسية"
سيغموند فرويد (1856- 1938)
عند فرويد، الغيرة التي لا يمكن التحكُّم فيها، الغيرة المشتعلة داخل النفس كحرقةٍ لا تنطفئ، هي إسكاتٌ لصدى المثلية الجنسية: النزعة الكامنة داخل كلّ نفس بشريّة. عند الغيرة، الرغبة الباطنية ليست موجّهة إلى الشريك الذي يُشكَّك بولائه، بل إنَّ هدف الغيرة هو "المنافس". ولأنّ الدافع المثلي خاضع لإسكات نفسي شديد، يتمُّ إسقاط كل شيء على الشريك. ليس غريباً أنّ مؤسِّس التحليل النفسي وضع الغيرة في أطروحاته مع المثليّة الجنسيّة والبارانويا منها. الغيرة عنده في النهاية هي "ممارسة غير واعية".
"الغيرة هي مرآة لانعدام المساواة"
سيمون دو بوفوار (1908- 1986)
وجهة النظر هنا مختلفة تماماً. سيمون دو بوفوار ترى الغيرة نتاج الهيمنة الأبويّة وسلطة الرجل. في كتابها الرئيسي "الجنس الآخر" تصف المشهد بدقّة. في النظام الأبوي: مكان الرجل هو الشأن العام، ومكان المرأة هو المطبخ والمنزل. بالنسبة له، هي مجرّد "إلهاء" و"تنفيس" و"الخاص بعد الهروب من العام". بالنسبة لها، هو "كلّ شيء"، هو "معنى وجودها ومبرر بقائها". دو بوفوار تفصّل الغيرة من وجهة نظر نسويّة. الاختلال في التوازن المادي له تأثير كبير على اقتصاد الرغبة بين الجنسين. يتمُّ وصف الرجل بـ "الجامح" و"الاقتحامي" والمرأة بـ "المتراجعة" و"العفيفة"، لكنّ هذا لأسباب عديدة. لأنّ المرأة هي ملك للرجل في المجتمع الأبوي، فإنّها تقوم بتقييد حريته بالغيرة، بسبب عجزها وإدراكها الدقيق لحقيقة الاختلال. عند دو بوفوار، لا تحرر جنسياً من دون مساواة حقيقية تلغي الفروقات بين الجنسين في كلّ شيء. لا تحرر جنسياً من دون عدالة وتفكيك هيمنة المجتمع الأبوي. غالباً، التحرر الجنسي من دون مساواة حقيقية، يجني الرجال ثماره، وتعاني المرأة من تداعياته.
"في الغيرة، نجعل الشريك يلعب الدور الأساسي"
رينيه جيرار (1923- 2015)
رؤية جيرار معقدة قليلاً. يقوم الغيَّور بإظهار "المنافس" كعقبةٍ بينه وبين الشريك. يبرّر إحساسه بمشاعر الغيرة، باستحضاره حبّه للشريك. ولكن الشريك ليس هدف المشاعر في ظاهرة الغيرة، بل إنَّ الهدف هو المنافس نفسه. الغيرة هي إعجابٌ بالمنافس أولاً (يجب تفريقه عن الإعجاب الجنسي كما ورد عند فرويد، ولكنّه يتضمّنه أيضاً). يقول عالم الأنثروبولوجيا الفرنسي بأنّ الغيرة، لما تؤدّي إلى كره المنافس، فإنّ هذه الكراهية هي كراهية للنفس أولاً، لأنّها غير قادرة على ضبط إعجابها بالمنافس. يُذاب الإعجاب في الكراهية. وكي يستطيع دفنه بشكل نهائي، وإخفاءه عن الآخرين، كي ينفي عن نفسه هذا الإعجاب، يضع الشريك بالمقدمة، إما عن طريق التشكيك بالنزاهة أو التأكيد المستمر للحب. الغيور يتّجه إلى الشريك كي يخفي دوره الأساسي هو بالذات، في تحريك للشريك من دور ثانوي إلى لاعب أساسي في الظاهرة، كي يخدّر وجدانه.
* كاتب من سورية