ببورتريهاته النسائية المذهّبة، والموتيفات الهندسية التي تملأ لوحاته، يبدو التشكيلي النمساوي غوستاف كليمت (1862 ــ 1918) وكأنّه كان في قطيعة مع سابقيه ومُعاصريه من الفنانين التشكيليين الأوروبيين، الذين ظلّوا أكثر قرباً من عناصر اللوحة التقليدية، إن كان لناحية التقنية والألوان، أو لناحية المواضيع، التي تمزج بين مشاهد التضاريس، والطبيعة الصامتة، أو البورتريهات الموقّعة بألوان زيتية وضمن تكوينات "مألوفة" أكثر من تلك التي يقترحها كليمت.
عبر معرضه "الفتى الذهبي غوستاف كليمت"، الذي افتُتح في السابع من تشرين الأول/ أكتوبرالماضي ويستمرّ حتى بداية العام المقبل، يقدّم "متحف فان غوخ" في أمستردام نظرةً تقطع مع هذه "القيطعة"، حيث يضع المعرض اشتغالات الفنّان النمساوي ضمن سياقها في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، كاشفاً عن تأثُّره بالعديد من مجاييليه، إضافة إلى تأثيره في كثير من الفنانين المعاصرين.
يقدّم المعرض ما يشبه السيرة الفنّية لكليمت التي تتوزّع مراحلها على صالات المتحف؛ حيث نقف أوّلاً على تأثُّره، ولا سيّما في طريقه للبورتريه، باسمين رئيسين: البلجيكي فرناند كنوبف والهولندي لورنس ألما تاديما. والناظر إلى بورتريهات كنوبف، قليل الشهرة عربياً، سيلحظ بسهولة تأثّر الفنان النمساوي ليس فقط بتكويناته الطولية، بل وكذلك بخياراته اللونية، حيث الشعر المذهّب، والقسمات البيضاء، شبه الشاحبة، التي سنعثر عليها لاحقاً في بورتريهات كليمت.
ويكشف المنظّمون، بالاستناد إلى العديد من الأبحاث والمنشورات الحديثة، عن اطّلاع كليمت الواسع على اشتغالات معاصريه، وزيارته لمعارضهم أو متابعته لآخر إنجازاته، وفي مقدّمتهم الهولندي فنسنت فان غوخ، حيث تُخَصَّص إحدى صالات المتحف لإبانة هذا التأثير، أو الحوار بينهما، من خلال وضع لوحات متقابلة أو متجاورة للفنانين. وهكذا يمكن للزائر أن يرى التشابه البعيد في الأشكال، أو في المزيج اللوني وانتقاله من طيف إلى آخر، أو حتى في خيار "تكبير" المشهد الذي يصوّره الفنانان إلى درجة يختفي معها الأفق من اللوحة، في العديد من الأمثلة.
كما يقترح المعرض مقارناتٍ بين كليمت وفنانين فرنسيين، وفي مقدّمتهم هنري ماتيس، الذي شكّل تجريبه في عناصر التزيين والديكور مادّة استفاد منها كليمت في موتيفاته التزيينية المعروفة. كما يعطي المنظّمون صورةً عن تأثر كليمت بالانطباعيين وتحديداً بجامعة الرسم "الوحشي"، ولا سيما أندريه دُران وتصويره لعوالم المنزل الداخلية (مثل السجّاد والستائر وغيرها)، والتي تكاد تغطّي على قوّة الشخصيات المرسومة وحضورها، وهو أمرٌ يشير المعرض إلى أنه يُلحَظ في الأعمال التي وضعها كليمت في سنواته الأخيرة.