أعمل الآن في المستشفى. لكنني لستُ طبيباً أو ممرّضاً؛ أعملُ كاتباً. وهذه الأيام أكتبُ روايةً عن جريمة قتل أفترض حدوثها في المدينة التي أعيش فيها. وما دفعني إلى اختيار مستشفى قريب من منزلي مكاناً للكتابة، هو الانقطاع شبه الدائم للكهرباء، وانقطاع المواصلات انقطاعاً يُعيق التنقّل، بعد أن قرَّر أصحاب القرار إيقاف الكثير من الخدمات كي يضمنوا استمرار عمل الأفران والمستشفيات. وأكتبُ هذا في مادة صحافيَّة، كي لا أشوِّش على النصّ الذي أكتبه في فكرة طارئة.
أكتب في الرواية خلال ساعات الصباح الأولى، وهذا طقس كتابتي الوحيد. هكذا وبلا تخطيط مُسبق، لم أجد خياراً يحافظ على صفاء ذهني سِوى المستشفى القريب من المنزل. لكنني أكتب هذا التفصيل هنا، لأنَّه يلحُّ عليّ وأنا جالسٌ ومن حولي أهالي المرضى وقد خرجوا للتوّ من معاينة أبنائهم.
فيما أنا بين المُسعفين الذين يستريحون، أكتب عن جريمة قتل أفترضُ حدوثها، وأشعر برغبة لأن أنسف الفصول التي كتبتها، لكونها استجابة لضرورة الفنّ في افتراض الواقع. ثُمَّ مهما كان الواقع شديد الحضور، فهو باستخدام الكلمات يتحوّل إلى افتراض، خاصّة مع الجملة التي صدَّرتُ فيها الرواية بعباراتها الشهيرة التي تقول إنَّ كُلَّ ما في الرواية، حتى الأمكنة، مجرَّد مصادفة.
أقول لنفسي بأنَّ الفنّ ليسَ الواقع وإنّما افتراضُه
هُنا حيثُ أجلس، تكاد أحاديث الأطباء أن تقتصر على المناوبات. أمّا أنا فبلا إرادةٍ مني أؤدي مناوبتي. أحاول أن أستمرّ بكتابة الرواية. وقد فكّرتُ في لحظات كان اضطرابٌ ما يدور من حولي وينتقل إلى الشاشة أمامي، بأن أعود إلى المنزل، وأدرّب نفسي على الكتابة باستخدام القلم والورقة، وأمتثل أخيراً لتلك الصورة الرومانسيَّة عن الكاتب. لكنني فعلت ذلك منذ البداية قبل سنوات، وعندما حاولتُ رقن ما كتبت لم أفهم خطّي. وجودي هنا بين الأطبّاء غريبٌ ودَعِيٌّ وساخر أكثر ممّا هو واقعي، أعرف ذلك، لكنّني أملك شيئاً من مهاراتهم في الكتابة غير المفهومة لسوى الصيادلة.
بعيداً عن الفنّ الذي هو افتراض الواقع؛ على مقربة من مكان جلوسي أخذتِ الأرضُ فتاةً منذ مدَّة وجرفتها السيول إلى فتحة تنتهي في البحر. لكنها لم تصل إلى البحر. أي إنَّها لم تنجُ من تهمة أنّها ابنة الأرض التي يَقتتل أبناؤها، وإنّما علقت في أحد الأمكنة تحت الأرض، وأخرجها فريق من فوج الإطفاء الذي انتشر حتَّى "المينا اليوغوسلافي" في أحد أطراف مدينة اللاذقية. لكنَّ الفتاة التي أخذتها الأرض على مقربة مني، لم تصل إلى هناك، وبقيت عالقة لساعات في مكانٍ يقع في الأسفل. لا أعرف أين. لكنها تحضرني، أيضاً كي لا يظهر أثر الحادثة في ما أكتب. فأنا أكتب عن جريمة أفترضُ حدوثها، لا عن جريمة حدثت. وقد تعلّمت، أو علّمتُ نفسي تجاوز اللحظة القاسية كي أستطيع الكتابة. لأنّ اللحظة، مهما كانت طبيعتها، لا تصلح للكتابة الروائية، وإنّما ما يصلح للكتابة هو السِّياق الذي نضعها فيه.
أعمل في المستشفى، لكنني لن أستمرّ، فأنا هنا في مصادفة لن أكرّرها. أكتبُ الآن، وأقول لنفسي بصورة مستمرّة بأنَّ الفنّ ليسَ الواقع، وإنّما افتراضُه. هكذا، وأمام القسوة التي تحتاج إليها الكتابة، أو تصنعها؛ أستطيع أن أترجم وجودي بين المسعفين والأهالي الحزانى، كما أستطيع الافتراض بأنَّ ما يحدث في الخارج، في الجوار، وعلى مقربةٍ مني، يمكن أن يكون بدورهِ، مجرّد افتراض. وما ذكرته ليست يوميات وإنّما افتراضات. أحياناً، لا يمكن لكلِّ الموت الذي شِهدناه أن يكون حقيقياً ويتركنا أحياءً في الآن نفسهِ، أو هذا ما نفترضه.
* روائي من سورية