الكتاب وحقوق المؤلّف.. أزمة نُظم تعادي القراءة

23 ابريل 2023
من شارع المتنبي في بغداد (Getty)
+ الخط -

منذ نحو ستّة أشهر، تواصل معي أحد الاصدقاء، مُبدياً استهجانه إزاء ردود الفعل التي تلقّاها من قِبل ناشرين قدّم إليهم كتابه الأول، والذي يمثّل خلاصة بحثية وميدانية في حقل الفلسفة، حيث لم يتخذ واحد منهم قرار إصدار الكتاب من عدمه، بناءً على مضامينه العلمية ومنهجيته ومستواه الفكري واللغوي.

حادثةٌ شخصية لا يمكن تناولها بمعزلٍ عن مشهد أوسع، إلا أن صدمة الصديق هذه المرة مرّدها الأداء الفردي لمعظم مالكي دُور النشر، سواء في عملية اختيار العناوين الجديدة لإصدارها، أو تدخّلهم المباشر في جميع أركان صناعة الكتاب، أو في آليات توزيعه، بحيث تصبح المؤسسة ومالكها كياناً واحداً يصعب التفريق بينهما.

ربما تبدو الصورة أكثر سوءاً بعد تفشّي فيروس "كوفيد-19" قبل أكثر من ثلاث سنوات، إذ كانت التوجّهات المعلنة التي سبقت ذلك بكثير، تركّز على الاستثمار في المحتوى الرقمي والتوسّع به، لكن ما حدث فقط أن الناشر حدّد عدد النسخ التي يطبعها من كلّ عنوان بمئة إلى مئتي نسخة، بدلاً من حوالي ألفٍ قبل الجائحة.

معطياتٌ عربية تُفسد الاحتفال باليوم العالمي للكتاب

تدهوّرٌ ترافق مع مسألتين؛ أولهما اعتبار انخفاض الإنتاجية في الطباعة الورقية هي الحقيقة الوحيدة التي تستدعي التعاطف مع الناشرين دون الالتفات إلى بقية عناصر المعادلة، إذ لا يُطرح أيّ حديث جديّ عن تسويق الكتاب رقمياً، مع شّح وفقر مهولين في الإحصائيات والدراسات التي تضيء واقع النشر وتستشرف مستقبله، بل تغيب ببليوغرافيا دقيقة تشتمل على أعداد المؤلّفات العربية والناشرين والمؤلفين والرسامين ومصمّمي الأغلفة وغيرهم من الفاعلين في هذه الصناعة.

وثانيهما وجود دور نشر تطبع أقلّ من مئة نسخة بكثير رغم أنها تدّعي خلاف ذلك، ما يحيل إلى نوع من التذاكي والنصب والاحتيال، حيث لا توجد مفردة دقيقة غيرها تعبّر عن تخفيض التكلفة إلى هذا الحدّ مع انتفاء أبسط الحقوق التي يجب أن يتمتّع بها الكاتب.

معطياتٌ عديدة تتضمّنها خريطة النشر العربية، تُفسد الاحتفالية التي أقرّتها "منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة" (اليونسكو) في الثالث والعشرين من نيسان/ إبريل من كلّ عام، تحت اسم "اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلّف"، فالأرقام والبيانات المتوافرة لا تبعث سوى على مزيدٍ من التشاؤم والإحباط.

على موقع "اتحاد الناشرين العرب"، الذي لا تزال محتوياته وتصميمه تؤكد بُعْد المسافة عن طموحات إدارته لتطوير مهنةٍ وصناعة ترتبط للمفارقة بالتباسات تأويلنا للحداثة في العالم العربي - بعد مرور أكثر من مئتي سنة على إدخال الحملة الفرنسية على مصر لأول مطبعة عقب اختراعها بنحو ثلاثة قرون لم تظهر فيها أيّة مطبوعات باللغة العربية، حيث نعثر على تقارير أوّلية وغير مدعّمة بوثائق ومعلومات تفيد بأن عدد الناشرين العرب يصل إلى ألف ناشر أو أكثر قليلاً يصدرون قرابة 70 ألف عنوان سنوياً، لن يُطبع منها مجتمعةُ مليون نسخة في أحسن الأحوال - يفترض أنها تُنشر في جغرافيا يعيش فيها ثلاثمئة مليون ناطق أصيل بالعربية (من أصل 430 مليوناً مجموع الناطقين بها)، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه الأرقام تعود إلى عام 2019، وهي أقلّ اليوم غالباً بسبب تداعيات الجائحة.

فقرٌ مهول في المعرفة حول واقع النشر وحركة التأليف

ومهما حاولنا التلطيف من هول الكارثة، بافتراض أن هناك ملايين دون سنّ السادسة أو أن هناك اثنين أو ثلاثة يشتركون في قراءة نسخة واحدة من الكتاب، تظلّ هناك تحديّات أكبر تُستذكر في يومه العالمي الذي يرفع هذا العام شعار "الرعاية من خلال القراءة" بالإشارة إلى فوائد تنعكس بالضرورة على المجتمع القارئ في اهتمامه بأفراده وانفتاحه على الآخر واحترامه للبيئة وغيرها، لكنها تبقى مكاسب مجرّدة بلا معنى متحقّق إذا ما أغفلنا نظرة السلطة إلى القراءة.

هل تتخلّى السلطات العربية عن تقييدها للإعلام والتعبئة والتحشيد والفضاء العام عموماً، وتقبل بشركاء لها يشاركونها نشر المعلومة والرأي والمعرفة ما يعني تقاسم التأثير على المواطن/ المتلقي؟ وهل تتنازل السلطات العربية عن احتكارها للحكْم من خلال تأهيل مواطنين عبر القراءة ليحكموا أنفسهم بأنفسهم عبر حكوماتٍ منتخبة ومنظومات رقابةٍ حقيقية وسيادة للقانون؟ وهل تتراجع هذه السلطات عن هيمنتها على الثروات وتذهب إلى تنمية تُبنى على العدالة يقودها قرّاء بوعي متطوّر ومختلف يتجاوز اللحظة الراهنة؟

من أجل اقتراح إجابة على تساؤلات كهذه، تكفي نظرة إلى المحتوى الفقير للمدارس الحكومية والجامعات العربية، وإلى الفصل التعسّفي للمكتبة عن المنظومة التعليمية الراهنة التي تتمسّك بأسلوب الحفظ والتلقين وإقصاء لثقافة السؤال والتفكير النقدي والقراءة بحدّ ذاتها على اعتبار أنها عملية استكشاف تقوم على الاستنتاج والاستدلال والتجريب. عند هذا الواقع، يغدو الحديث عن الأعداد القليلة للمكتبات العامة في المدن العربية فائضاً عن الحاجة.

خلاصةٌ تقف عائقاً يستحيل تجاوزه والمضي في تطوير صناعة الكتاب، ما دام الحق بالمعرفة والمعلومة حكْر على السلطة التي قد تقبل بقرّاء "موظفين" يمتلكون أدوات لا ترقى أبعد من الشرح والتفسير، وترفض بالمطلق قراء عضويّين يشتبكون مع الواقع وأزماته ويسعون نحو التغيير.

غير أن التفاصيل تستحقّ جانباً من النقاش من خلال الخوض في الانتهاكات التي يتعرّض لها المؤلّف العربي، وبدرجة أقلّ الناشر العربي مع التنبّه إلى عوائق إضافية تعترض طريقه غير تغوّل السلطة، حيث يفتقد المبدع لوكيل حقوق أدبي يدير حقوقه وشبكة علاقاته ومصالحه ويضع الخطط التسويقية لاسم الكاتب والترويج لأعماله في الصحافة، إلا باستثناءات معدودة، وعليه أن يضطر لتوقيع عقدٍ لا تزال بنوده حتى الآن لا توفّر الحد الأدنى لحقوق المؤلّف!

كما تفتقر صناعة النشر العربية إلى اطلاع الوكيل الأدبي، أو من ينوب عنه، على سير عملية الطباعة بدءاً من تحريره وتدقيقه وإخراج النص وتصميم الغلاف وصولاً إلى المطبعة، ثم اطلاعه على عملية التسويق وعدد النسخ المباعة بشكل دوريّ، وبالطبع نيْل حصته من نسبة المبيعات. وفي المقابل، يكاد يغيب المحرّر في عملية النشر، والاكتفاء بتصحيح المدقّق اللغوي في أحسن الأحوال، وتكمن الذريعة بخفض تكاليف الكتاب أو لعدم تقدير دور المحرر من قبل الكاتب والنشر على حدّ سواء.

تمثّل القرصة مشكلة كبرى تلقي انعكاسات سلبية على المؤلف والناشر معاً

أما الناشر، فيواجه مشكلات عديدة من أبرزها غياب شركة توزيع عربية تؤمّن الكتاب في الوقت والمكان المناسبين، بحيث لا تبقى معارض الكتب إلى جانب عدد قليل من الموزعين والمكتبيين نوافذ التسويق المحتملة، وما زاد الطين بلّة اندلاع صراعات أهلية في بعض البلدان العربية خلال العقد الأخير، وإغلاق الحدود بين بعض البلدان لأسباب أخرى، ما يعني شطب العديد من الأسواق من حسابات النشر.

وتظلّ القرصنة عبر إصدار نسخ مزوّرة بطباعة أقل جودة وبسعر أقل من سعر الكتاب الأصلي، مشكلة كبرى تلقي انعكاسات سلبية على المؤلف والناشر معاً، يساهم في تفاقمها غياب المتابعة القانونية وسلطة القانون في معظم البلدان العربية التي تنتشر فيها "دور نشر تعتمد" بشكل أساسي على بيع الكتاب المزوّر، علاوة على معوقات أخرى مثل الضرائب ونظم الرقابة المختلفة.

بالعودة إلى صديقي الذي لا يزال يحلم بنشر مؤلَّف أوّل، وبالتزامن مع "اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلّف"، يجدر الاعتراف بغياب صناعة الكتاب كجزء من السياسات الرسمية لنشر المعرفة وربطها باستراتيجيات التنمية والنهضة بالمجتمع والدولة، وأن هذه الصناعة تفتقر بشكلٍ عام إلى المهنية والاحتراف بحيث لا تزال رهينة إدارات ورؤى من الماضي، وأن جزءاً كبيراً من المستهلكين (القرّاء الحاليين) هم في طور الانقراض، مع تباطؤ في التحديث بما يضمن التوجّه إلى قرّاء جُدد. وكأن التقدّم في الإدارة والاقتصاد والحريات وحقوق المواطنة والثقافة وحتى الرياضة محكومٌ بتغيير واحد.

المساهمون