من الطرائف التي يرويها التاريخ أن الإمبراطور الروماني نيرون، الذي يُتَّهم أنه أحرق روما، قد صنع لنفسه مؤامرة خاصة به من أجل تفسير هذا الحريق ، فعزاه إلى أعمال المسيحيين التخريبية، ومنَح نفسه الإذن في اضطهادهم وقتْلِهم وتشريدهم، بحسب التهمة الملفَّقة بقيامهم بذلك الفعل الشنيع.
واللافت في قول التاريخ، أن نيرون اعتقل بضعة مسيحيين فعلاً، وأجبرهم على الاعتراف الزائف بالجريمة. أما الأمر الأشدّ غرابة فهو أنّ ذلك الإمبراطور وجّه إلى المُعتقلين تُهمةَ "كراهية البشرية"، لا إحراق روما. ولننظر ونفكّر فيما يحدث في عالمنا اليوم، من اتهامات تطاول كلّ من يعارض الأنظمة الحاكمة في أيّ مكان، إذ نجد نيرون يتكرّر.
أغلب ضحاياها هم الضعفاء الذين يُقدّمون كأكباش فداء
وهو إجراء يتكرّر منذ أيام نيرون، حتى هذا اليوم، مثلما تُستعاد وتتكرّر تُهمة الكراهية (هل نقول ما أشبه أيامنا بالبارحة؟). ولكن نيرون نفسه مُختلَفٌ عليه في التاريخ، إذ ثمة من يقول إنه كان بعيداً عن روما حين شبّت الحرائق فيها، وإنه لا وجود لأيّ تفسير يمكن أن يعلّل قيام إمبراطور بإحراق مدينة مثل روما، فقط كي يبتهج بالنيران، كما روّج لذلك كثيرٌ من المؤرّخين الرومان أنفسهم، وهذه عادة متوارثة أيضاً، حيث ينخرط دُعاة الطغاة بالدفاع عنهم، وعن سياساتهم. ولكن اللافت هو أن النظرية التي تقول إن الإمبراطور المجنون هو الذي أحرق المدينة، هي التي احتفى بها التاريخ، أكثر من نظريات البراءة، وهي التي ألهمت الشعراء خصوصاً، والثوريين، ممن وجدوا في هذا الحاكم الصيغة المكثَّفة للطاغية، وهذا أمر يُحمد للتاريخ عموماً، الذي يجري عمليات تنظيف دورية يعمل من خلالها على إظهار الحقيقة.
غير أن فكرة المؤامرة لا تزال مُغوية، وهي قادرة على "تفسير" ما لا يُفسّر، أو يُفهَم، أو يعرف من الأحداث التي لا يتمكّن الناس من الاطّلاع على أسبابها، وأهدافها الحقيقية. واللافت أن الحكام والمحكومين يستخدمونها، ففي كلّ تمرّد، أو انتفاضة، أو ثورة، بل في أي مُظاهرة صغيرة تعترض على رداءة الخبز، أو تطلب تعبيد طريق، تُحشَر المؤامرة، ويبحث المعنيون عن المتآمرين، ولدى الحكومات الشمولية قوانين تُدين تكوين "الجمعيات السرية"، وهي التسمية المؤامراتية للأحزاب السياسية، بينما قد نرى أنّ المهزومين في الثورات لا يريدون أن يصدّقوا أنهم هم الذين هُزموا، بل تسبّبت في ذلك قوّة خارجية غاشمة، لا تريد أن يحقّقوا أحلامهم.
وفي الجهتين تعمل النظرية على إخفاء الحقيقة، أو تشويهها عمداً، أو تأجيل البحث في الأسباب، ولكنّ جوهرها هو أن الآخر مشكوك في أمره، وأن العالم الذي نعيش فيه ممتلِئ بالغموض، والأعداء "يتربّصون بنا"، ولذلك ترى أنها قادرة على تحريض المخيّلة، لهذا ترى الآلاف من الناس يشتركون في إعدادها، وتغذية معطياتها بالغريب والعجيب.
اللافت هذه الأيام، أن نظرية المؤامرة تغزو الكون بوصفها نظرية الحكومات والدول، وقد يخترع الأفراد قصصَهم عن المؤامرة، غير أنّ أغلب ضحايا هذه النظرية كما قال روب براذرتون في كتابه "عقول متشكّكة"، هم الأشخاص الضعفاء الذين يُقدّمون كأكباش فداء.
* روائي من سورية