سنحت لي، خلال الأشهر الماضية، فرصة أن أخصّص ساعات طويلة ومركّزة للتوغّل في شِعاب الأدب العربيّ القديم. وخلال أسابيع ضمن هذه الفترة، تمكّنتُ من تكريس ساعات طويلة يومياً لمطالعة أبي العلاء المعرّي في "فصوله وغاياته" (تحقيق محمود حسن زناتي، 1938). والحقّ أنّ تلك الأيام قد وفّرت لي الكثير من السكينة الذهنية رغم التحدّي اللغوي الذي يُمثّله أسلوب المعرّيّ الموغِل في وحشيّ اللغة وقديمها.
لم يكن سبب هذا التحدّي جهلي بهذا الوحشيّ والعتيق فحسب، وهو وحده عاملُ صدّ لا مناص من الاصطدام به والاصطراع معه، ولكن طبيعة الكتاب المذكور، الذي على ما يبدو منه - وكان طه حسين قد ألمح إلى الأمر بشكل عابر ومختصر في "مع أبي العلاء في سجنه" - أنّه ربما كان مجموعة من الإملاءات الشفهية القائمة على قطع نثرية شبيهة بالمقامات، قد يكون المعرّي ألقاها على عدد من طلبة العلم بغرض تأديبهم في اللغة، فجمع في هذه القطع المسبوكة كثيراً من غريب المفردات وطريفها، وكمّاً هائلاً من أخبار العرب وأسماء قبائلها وشخصياتها وأبطالها، بل وأسماء نوقها وجيادها وجبالها ووديانها أيضاً؛ وكلّ هذا في قالب بيانيّ بديع محكَم ومعقّد ومزوّد بشروح للمفردات وأبيات من الشعر، بالإضافة إلى استطرادات لغوية وتاريخية في عدد من المواضع.
وعلى أية حال، فإنّني أحدس أنّ مردّ هذه السكينة الذهنية التي حلّت بي هو تشغيل طبقات ذهنية مختلفة عن الطبقات التي يتطلبها التحليل والتفكيك والتركيب عند قراءة الفكر النظري أو الأدب السردي القصصي أو الشعري؛ ولعلّ هذه ذات الطبقات التي كان الخواء يزداد فيها عبر السنوات، والتي كانت تنتظر فرصة الامتلاء والاتساع في اتجاهات عديدة.
بُناه الإنسية والوحشية تشبه مدينة معمورة في قلب دَغلٍ رهيب
وهكذا أترك نفسي تنخطف ضمن مجرى الزمن لكي أعيد تنشيط حافظتها، شاحذاً إيّاها أوّلاً لتستطيع في ما يلي مراكمة المزيد من الصور والمفردات والأخبار والسِّيَر والأسماء والحوادث بما يعين اللسان الداخلي على التعوّد على طبقة جديدة من طبقات البلاغة التي ستفرج، حين يشاء عقل اللغة، عن كامنها ومكنونها. ولعلّ هذا المكنون يكوّن مزوّداً بما يضمن له القدرة على التحوّل إلى وسيلة ثرية ومرنة للاستعمال الرشيق والتركيب الموفَّق. هذا طبعاً عدا عن المنفعة العظيمة التي يأخذها المرء عن بصيرة المعرّي المنطوقة وحِكَمه المسبوكة.
وهذه المنفعة لا تقتصر بطبيعة الحال على الجانب اللغوي الثري، بل تمتدّ إلى إحسان استدراك جدلية التشكّك والإيمان؛ فإنْ كان طه حسين يلمّح إلى حيرة المعرّي وأسئلته العميقة والخطيرة في ما يتعلّق بالإيمان التقليدي الموروث والمفاهيم اللاهوتية المعتادة، فإنّ هذه "الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ" تُشدّد في مئات المواضع على الإيمان بمن هو كلّي القدرة ومطلق المشيئة خلف حدود هذا العالَم، وهو إيمان على ما يبدو في هذه المواضع مجرّداً إلى حدّ يلفت الانتباه من رغبة الإغراق في خصوصيات شرائع بعينها، مفضّلاً البقاء ضمن عموميات التوحيد والصلاة والإحسان والثقة بالله "ثاني المنفردين" و"قديم القدماء... مؤقّت الميقات".
في "الفصول والغايات" تحدٍّ يحثّ القارئ همساً على هجران العقل الفلسفي النسقيّ والإقبال على ذهنية الفيلسوف الشاعر أو الشاعر الفيلسوف، والتي تتجلّى في محاولة إتقان العيش مع ثنائية التشكّك والإيمان. ولعلّ هذا ما يحترفه الشعراء الفلاسفة المتصالحون مع النهايات المفتوحة، ويفشل فيه معلّمو الفلسفة - النسق العلمي وأرباب الفكر الذين يرغبون في تعريف الأمور بوضوح وجلاء مستوهمَيْن. وكأنّ المقدَّر لكلّ من اليقين والتشكّك أن يكون أحدُهما رقيباً على الآخر، حافظاً له ضمن حدود الاتضاع الذي يقرّب من المعرفة.
يجعل هذا الكتاب مَن أَخَذ فكرةً سطحية عن المعرّي، من أفواه بعض أعدائه الأصوليّين أو بعض مناصريه الشكوكيّين، يعيد النظر في الرجل وقناعاته ومعتقداته، وربما في اللغة العربية ككلّ؛ فهو ها هنا يقدّم شكلاً جديداً من التقوى الدينية التي لا تلتزم بتفصيل شرعيّ واضح أو دعوة دينية واضحة التعريف؛ إنها أشبه بتقوى ربوبيّة، ولكن لا خلاف على عمقها ورسوخها واتّقاد حسّها، مهما كانت نية تأليف الكتاب، أهي اختلاجات الروح التقيّة الناسكة أم مجرّد مادّة لحلقات تعليم عصبة من أبناء الأكابر. كما أنّ اتساع اللغة التي يقدّمها وتنوّع المعاني الذي يعرض له وطريقة استخدامه للاشتقاقات، كلّها أمور تجعل القارئ يعيد النظر في كلّ قراءة متعجّلة لنصّ عربيّ قديم؛ فما أكثر الكلمات التي تبدو معرّفة واضحة لقارئ العربية المعاصرة أو للقارئ المُعاصر لنصّ قديم، إلّا أنها تكشف عن مكنون مختلف عمّا هو متعارف عليه.
ومن المنظور الشخصيّ، كان لي هذا الكتاب ملجأ رحباً في زمن الخراب الخارجي والشواش الداخلي؛ فكنت أغوص في محيطه اللغوي ذي الإيقاع الغريب الذي لا يخلو من خيبات حسّية، لأختبر معاني عالم آخر مختلف وبعيد، مع أنّه أيضاً أليف يسكن تجاويف الصدر؛ وكنت أغترف من معاني بُناه الإنسية والوحشية التي تشبه مدينة معمورة في قلب دَغلٍ رهيب لأبتكر لها بنفسي خريطة ذات معنى، وأجمع بلا إرشاد مسبق ما ينتظرني من غرائب ما تُرِك فيها ومن نوادر أحافير أزمنتها الخرافية.
* شاعر وكاتب سوري مقيم في السويد