اليوم الدولي للضوء في مكتبة قطر: مخطوطات تأسيسية من الحضارة العربية

17 مايو 2022
تملك "مكتبة قطر الوطنية" مخطوطات نفيسة ونسخاً نادرة من الكتب العلمية (Getty)
+ الخط -

في إطار الاحتفال باليوم الدولي للضوء، وضمن سلسلة "قراءات في مخطوطات مكتبة قطر الوطنية"، نُظّمت محاضرة عن مخطوطات البصريات في الحضارة العربية الإسلامية، تحدث فيها حسن أبو الخير، الباحث المتخصّص في تاريخ البصريات وعلم المخطوطات. جاءت المحاضرة أمس الإثنين، في ذات اليوم ــ 16 أيار/ مايو الجاري ــ الذي اختارته "منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة" (يونسكو)، منذ العام 2017، للاحتفال باليوم الدولي للضوء

وطاف المحاضر في تاريخ علوم الضوء، الذي بدأ باسم "علوم المناظر" ودار حول معرفة وإدراك الأشكال بالعين، تبعاً لما أنتجه اليونانيون وتُرجم إلى العربية، وبالتحديد ما قدّمه إقليدس الذي وصلنا كتابه في المناظر، وبطليموس الذي وصلت بعض كتاباته.

والترجمة التي أنجزتها الحضارة العربية الإسلامية، منذ القرن الثالث الهجري (التاسع ميلادي)، أفاد منها العلماء وتبنّوها، ثم صحّحوا مذاهب علماء اليونان، بل أسّسوا لعلوم جديدة درست الضوء بذاته وفسّرت ظواهره. فقد استقر اليونانيون على أنّ الرؤية ناتجة عن شعاع يخرج من العين على شكل مخروط ضوئي إلى الشيء المرئي، ويتكوّن هذا الضوء من عدد لا نهائي من الأشعّة المتباعدة.


القول الفصل
وقال المحاضر إنّ أول تصحيح جرى على يد الكِندي في كتابه "المناظر"، وأصله العربي مفقود، وعرفناه من ترجمه لاتينية نُقلت إلى الفرنسية ثم إلى العربية. وكان العلماء في هذا القرن قد تبنّوا مذهب إقليدس، ولكن الكِندي صححه قائلاً إن الشعاع الصادر من العين كتلة متصلة لا متباعدة. ثم أتبع ذلك باستدراكات أخرى في كتاب "تقويم الخطأ والمشكلات التي لإقليدس في كتابه الموسوم بالمناظر".

صحّح العرب مذاهب علماء اليونان في الضوء وأسّسوا لعلوم جديدة

أما حُنين بن إسحق في مؤلَّفه "كتاب العشر مقالات في العين"، فقد رفض نظريات الإدخال التي قال بها الطبيعيون الإغريق، حيث الصورة ترِد من المرئي إلى الرائي، وكذلك نظريات الشعاع البصري الإقليدية التي تقول إن الشعاع يخرج من البصر إلى المرئي، وتبنى نظرية غالينوس التي تقول بحدوث الرؤية عن طريق حالة نفسية عبر مادة تخرج من الدماغ إلى العين، ثم تخرج عند رؤية الأشياء وتؤثر في الهواء فتصنع الشعاع المخروطي، وهذه النظرية تُعرف بـ"عصا الأعمى".
ومن العلماء الذين استعرض جهودهم قسطا بن لوقا، وله كتاب يستدرك فيه على علم المناظر بعنوان "تقويم الخطأ"، وابن عيسى في "المناظر والمرايا المحرقة على مذهب إقليدس في علل البصر" وهو ما زال مخطوطاً لم يحقق إلى الآن، ولم تجر دراسة حقيقية له تستوعب القضايا التي فيه.

وذهب المحاضر إلى نهاية القرن الثالث للهجرة (التاسع ميلادي) نحو أبو بكر الرازي في مؤلَّفه "كتاب كيفية الإبصار" وهو مفقود، ولكن وصل عبر مصادر أخرى أنه تكلم فيه عن أن الإبصار لا يكون بشعاع يخرج من العين، وهو بهذا أول من رفض النظرية الإقليدية، وفق ما ذكر.

أشار أبو الخير إلى أنّ القول الفصل جاء من العالم الحسن بن الهيثم، فقد قال إن الرؤية مركّبة من العلم الطبيعي والرياضي، رافضاً نظرية الإشعاع الذي يصدر من العين وإنما بالعكس، كما أنه تبنى نظرية تفيد بأن الشعاع ينبعث من كل نقطة من الجسم المرئي نحو العين، وهي النظرية المستقرّة حتى الآن، وأيدها كل من جاء بعده من علماء عرب وأوروبيين.


المرايا المُحرِقة
وإذ يقال إن المنجزات الكبرى تبدأ من حلم صغير، فإن المحاضر يستعيد أسطورة يونانية أسست لعلم اسمه "المرايا المحرِقة". تقول الأسطورة إن أرخميدس استطاع أن يحرق أسطول الرومان، وقد حاصر مدينة سرقوسة بصنعه مرايا إذا سقطت عليها أشعة الشمس فإنها تعكسها في نقطة تسبب الإحراق (ربما انبثقت الأسطورة تكريماً لأرخميدس الذي أعدمه جندي روماني).

لم تُحَلّ إحدى مسائل ابن الهيثم الرياضية إلا في 1997

وسعى علماء المناظر لتحقيق هذه الأسطورة، ومنهم أنتيموس الترالي، ولكنهم لم يستطيعوا تحديد نقطة الإحراق، وجاء الكندي بنتائج مبهرة، وقد كان من قبله عطارد بن محمد البابلي أول من تحدث عن ذلك في مخطوط "الأنوار المشرقة في عمل المرايا المحرقة"، وذكر المحاضر أن نسخة وحيدة متوفّرة للمخطوط لم تحقّق حتى الآن.

قدّم محدّثنا خلاصة من كتاب "الشعاعات الشمسية" للكندي، وفيه بدأ بإنشاء مرآة محرِقة ذات شكل مخروطي، ثم مرايا كروية مقعّرة، وجهاز من خمس وعشرين مرآة مسدّسة الأضلاع تعكس الأشعة الشمسية التي تسقط باتجاه نقطة وحيدة، ثم من مضلع منتظم ذي أربعة وعشرين ضلعاً أنشأ هرماً منتظماً ذا أربعة وعشرين جانباً، ثم مرآة بقطر محدّد تعكس الأشعة نحو نقطة محددة.

في القرن الرابع للهجرة (العاشر ميلادي) يقودنا المحاضر إلى إشراقة علمية جديدة مع العالم ابن سهل في كتابه "الآلات المحرقة" أو "الحراقات". فالقدماء بحثوا الإحراق عن طريق الانعكاس، لكن ابن سهل وسّع بحثه، بحيث لا يكون الإحراق فقط عن طريق الانعكاس بل الانعطاف (الانكسار)، ودرس لذلك مرآة مكافئية المقطع ومرآة ناقصة المقطع، وعدسة مستوية محدّبة، وعدسة محدّبة الوجهين، إلى أن وصل إلى قوانين الانعطاف.

استفاد ابن الهيثم ــ الذي جاء بعده مباشرة ــ من ذلك، وكتب مقالة بعنوان "المرايا المحرقة" تكلم فيها عن الإحراق بواسطة العدسة والزيغ الكروي للأشعة المتوازية والساقطة على البللور. وله مقالة ثانية: "المرايا المحرقة بالدوائر"، يكشف فيها عن الزيغ الكروي الطولي، ومقالة ثالثة بعنوان "المرايا المحرقة بالقطوع".

يفسح أبو الخير مجالاً جيداً للحديث عن كمال الدين الفارسي بين القرنين السابع وأوائل الثامن للهجرة (الثالث عشر والرابع عشر للميلاد)، وله كتاب "تنقيح المناظر" شرح في إحدى مقالاته الكرة المحرقة لابن الهيثم وأعطى فيها دراسة كمّية بقيت الأكثر تطوراً لفترة طويلة من الزمن.


الانعكاس
كثيرة هي مباحث الانعكاس الضوئي، لكنّ المحاضر قدم لنا ما تفرّد به علماء الحضارة العربية الإسلامية والمسمى "مسألة الحسَن"، والتي اشتُهرت عند الأوروبيين منذ العصور الوسطى وعصر النهضة حتى اليوم باسم Alhazen's problem، نسبة إلى الحسن بن الهيثم.

وقد تعجّب من جاء بعده من العبقرية الرياضية والهندسية التي لم يتطرق اليها أحد من قبله في مسألة انعكاس الضوء، وظل العلماء يفحصون ويبحثون فيها حتى حُلت المسألة في عام 1997، على يد عالم الرياضيات في "جامعة أكسفورد" بيتر نيومان.

وبوصفه مؤسّس علم الضوء باعتراف العالم أجمع، كان على المحاضر أن يوجز بعض ما قدّمه ابن الهيثم للبشرية، ومن ذلك أبحاثه في حقل "الانعطاف"، والتي بنى فيها على إنجازات ابن سهل. ففي مقالته السابعة، تفحّص العدسة الكروية والعاطف الكروي ليس فقط كحراقات، بل أجهزة بصرية في علم انعطاف الضوء.

ما تزال نظرية ابن الهيثم في الرؤية قائمة إلى اليوم

أما الضوء، ففي علم المناظر لم يكن قبل ابن الهيثم إلا عاملاً من عوامل رؤية الأشياء. وأما رؤيته بوصفه ضوءاً، فلم تقع إلا على يده، وهذا حدث لأول مرة في تاريخ العلم، حين فصَل ابن الهيثم بوضوح بين شروط انتشار الضوء وشروط رؤية الأجسام.

وجال المحاضر في مباحث أخرى مثل الظواهر الجوية، واهتمام العلماء العرب والمسلمين بتفسير قوس قزح والهالة الشمسية وضوء القمر، وخصوصاً الفارسي الذي شرح قوس قزح عبر تجربة انتشار الضوء في كرة زجاجة مملوءة بالماء، ونجم عن ذلك أول تفسير صحيح لظاهرة قوس قزح.

وذهب كذلك إلى كسوف الشمس ومقالة ابن الهيثم التي تتناول كيفية عمل الثقوب الضيقة في إحداث صور المبصرات على حواجز، والتي ستمهّد بعد ذلك لوجود الكاميرا التي نعرفها اليوم، وكذلك إلى نظرية الإظلال التي فصّلها ابن الهيثم في مقالة، وإلى الإنجازات التجريبية ومنها الخزانة المظلمة ذات الثقب التي استعملها ابن الهيثم، ورأى كيف تبدو صورة الجسم بعد مرور الضوء من ثقب ضيّق وآخر واسع فيها.

ومرّ المحاضر على بحوث الخداع البصري ــ وكانوا يسمّونها "أغلاط البصر" ــ وإنجاز المكبّر البصري، مورداً ما جاء في كتاب تقي الدين بن معروف "نور حدقة الأبصار"، إذ يقول في المكبّر: "استقام لنا أن نعمل بلّورة نرى بها الأشياء التي تختفي من البعد كأدقّ الأهلّة وقلوع المراكب الكائنة في أبعاد مُشرفة ولا يدركها الطرْف بأحدّ الأبصار".

جدير بالذكر أن "مكتبة قطر الوطنية" تقتني نسخاً نفيسة من النصوص العلمية، منها مخطوط كمال الدين الفارسي "تنقيح المناظر"، وغيره، فضلاً عن نسخ نادرة مطبوعة من أوائل المطبوعات لكتابات ابن الهيثم باللغات العربية واللاتينية وغيرها. كما تتيح المكتبة عدداً من مخطوطات ابن الهيثم للاطلاع.

المساهمون
The website encountered an unexpected error. Please try again later.