المتّفق عليه بين معظم النقّاد أنّ نشوء أي نوع أدبي، أو ازدهاره، يرتبط بشروط العصر. ولهذا، فإنّ مهمّة البحث عن النشوء تتطلّب بالضرورة البحثَ في الشروط التي أتاحت لهذا النوع أو ذاك فرصة الولادة والحياة. فتجربة كتابة المقامة، مثلاً، لم يُكتَب لها أن تستمرّ في الكتابة العربية، لأنّ شروط العصر قد تغيّرت، ولا يُعرف اليوم في ما إذا كانت المقامة، أيْ مقامات بديع الزمان الهمذاني، قد استجابت بالفعل لشروط عصرها أم لا.
ومع أنّ عبد الفتاح كيليطو يقول إنّ أسباب ظهور المقامة ليست واضحة، فإنّ روجر آلن يذكر، في مقدّمته لـ"حديث عيسى بن هشام" لمحمد إبراهيم المويلحي، أنّها كانت تعبيراً عن العالم السفلي للمدينة العربية في عصر العباسيّين، حيث يقوم أبو الفتح الإسكندري بدور البطولة كشحّاذ ذي حيل كثيرة لابتزاز المال من الناس.
وإذا كان هذا الرأي صحيحاً، فإنّ عدم استمرار هذا النوع الأدبي المبتكَر بوصفه تعبيراً عن عالم شرائح من المجتمع يثير السؤال التالي: هل دُمِّرَت تلك الشرائح الاجتماعية؟ هل مُنِعَت من التعبير عن نفسها؟ غير أنّ تجربة الهمذاني لم تصبح نوعاً أدبيّاً سائداً يجَرّب الكتابةَ فيه ويطوِّر بُنيتَه أدباءٌ وكتّابٌ في اللغة العربية. وبهذا المعنى، فقد كانت المقامة تجربة إبداعية فريدة في الأدب العربي، غير أنّها لم تستطع أن تكون نوعاً أدبياً.
رغم فرادتها، لم تستطع المقامة أن تكون نوعاً أدبياً
والراجح أنّها لم توفّر العناصر الفنية الضرورية لتوليد النصّ الجديد القادر على مجاراة روح العصر، فمِن الصعب تجديد الخطاب الفكري بها، ولهذا لم يكن من الممكن أن تكون المقامة بديلاً للقصة القصيرة في العصر الحديث، أو أصلاً لها في النشوء. وقد كان مصير المحاولة التي قام بها محمد إبراهيم المويلحي، في عمله الشهير "حديث عيسى بن هشام"، أن يظلّ وحيداً وفريداً. ولم تكن تجربة الشدياق أو اليازجي قد نفعت في تسويق هذا النوع الأدبي، أو في إعادة إحيائه، إذ لم تكن تتضمّن أيّ محتوىً اجتماعي عميق.
ولم تكن التجربة التي خاضها عبد السلام العجيلي ذاتَ أثرٍ أيضاً في التاريخ الأدبي السوريّ أو العربي، وظلّ كتابُه الذي منحه عنوان "المقامات" يتيماً في تجربته القصصية، وفي تجربة كتّاب القصّة السوريين والعرب الذين جاؤوا من بعده. وقد اعتُبرتْ مجرّد محاولة طريفة تسخر من بعض الظواهر، من دون أن تتمكّن من إحداث أي تغيير في عالم الكتابة. وقد مضى العجيلي نفسه يكتب القصة القصيرة لحسن حظّ قرّاء العربيّة، ليُنتج مجموعة من ألمع القصص في الأدب العربي.
أظنّ أنّ البطل الوحيد، أي بطل المقامة، لم يعد قادراً على تمثيل المجتمع، كما أنّ كلّ فردٍ باتَ راغباً في أنْ يرى نفسَه، أو فرديّته، في النصّ الأدبي، بينما تبدّلت لغةُ الكتابة إلى لغةٍ أخرى تبني معجمها الخاصّ بها، الذي يستعير مفرداته من هذا العصر، لا من الماضي. لهذا، لم تكن المقامة أساساً للقصّة القصيرة العربية، بل كانته المؤثّراتُ الأجنبية من جهة، والواقع العربي نفسه، من جهة ثانية، بما يتطلبه من الرغبة في ظهور الفرد الجديد المتحرّر.
* روائي من سورية