يقرّبنا الفنُّ من طرقٍ مختلفةٍ لفهم الجمال، فهو يثير فينا المتعة ويحثّنا على المعرفة، ولكنّه أيضاً يثير التساؤلات. يعطي رأيّاً. يستنكر. وإذا كان فنّاً عالياً، فإنّه بالضرورة، يحطّم التماثيل والقوالب الجاهزة والموروثة. يحاول الفنان عادةً أن يعبّر عن أفكاره وأحلامه وقلقه في أعماله: إنّها طريقته في فهم ما يحدث في الخارج، حتى في داخله، أي في عوالمه الباطنة. بالتالي، ما يعبّر عنه يمكن أن يصلح كاقتراحاتٍ من شأنها أن تغيّر السائد، بناءً على نبض التجربة.
على سبيل المثال، لقد تعوّدنا إعطاء الأمومة طابعاً مثالياً، وربّما مقدَّساً بعض الشيء: الرّحم التي تكبر، فكرة الروح التي تولد في أحشاء الأمّ، التجوَّل في الحديقة مع الطفل المولود، والحبّ غير المشروط. في واقع الحال، لا يمكن لأحدٍ أن ينكر ذلك.
لكن، ما الذي لم يخبرونا إيّاه عن الأمومة؟ ثقل الحَمْل، وفقدان هوية الجسد، والهفوات العقلية، والإرهاق، وعدم النوم، وغيرها من الأمور التي سرعان ما ندرك أنّها ستلازم الأمّ مدى الحياة. لقد أرادت الفنانة الإسبانية أندريا كوستاس لاغو (1978) برغبة عارمة، أن تُنجبَ طفلاً، لكنّها لم تكن تعرف الجانب الخفيّ من الأمر.
ضمن هذا الإطار، يأتي معرض "انفصال"، الذي يستضيفه "متحف ماركو للفن المعاصر"، للفنانة أندريا كوستاس لاغو، في مدينة فيغو الإسبانية، والذي فتح أبوابه في السابع من شهر شباط / فبراير، ويستمرّ لغاية الثاني من شهر تموز/ يوليو المقبل، حيث تقدّم مشروعاً يجمع أعمالاً من العامين الماضيَين: سلسلة من الصور الفوتوغرافية، ومقاطع فيديو، وتجهيزات وتركيبات محدّدة في الصالة نفسها.
الُتقطت جميع صور المعرض خلال عام 2020 بطريقة عفوية وخطرة
تأتي فكرة المعرض استناداً على التجربة الشخصية، حيث تعكس لاغو تجربة أمومتها، من وجهة نظر غير مثالية، وبعيداً عن التقاليد والمثاليات، إذ تسجّل التناقضات والتحديات التي تنطوي عليها هذه التجربة التي غيّرت حياتها بشكل حاسم. تكشف أندريا كوستاس في أعمالها عن إيماءاتٍ مُربكة. من ناحية هناك صور تدافع بها عن حالتها كفنانة وامرأة، ومن ناحية أُخرى تعرض صوراً عن حالتها كفنانة وأمّ، وما ينجم عن ذلك من علاقاتٍ ترسمها مع أطفالها، بيئتها وعائلتها.
لا تبحث لاغو في أعمالها المعروضة عن نقل شعور السعادة بالضرورة، فهي "ليست قصة سعيدة"، كما تعبّر هي نفسها، بل "قصة صادقة وعارية". لذلك لن يتفاجأ الزائر عندما يرى في الصور أو الفيديوهات أو حتى التجهيزات المعروضة تناقضات السعادة والحزن والمعاناة وما يشكل لحظات حياة الأم اليومية. غير أنها أيضاً لا تستحضر ذكرياتها المعروضة بلغة مباشرة.
وقد ينتبه الزائر إلى تواضع مفرطٍ في مشاهد الصور، ولكنه، في أغلب الظن، متعمّد من قبل لاغو، إذ أنّها تبرع في إظهار حالات الذات الأمومية، مهزومةً، دون زخرفة، ودون اختلاق الواقع. الُتقطت جميع صور المعرض، كما وضحت الفنانة، خلال العام 2020، بطريقة عفوية ومحفوفة بالمخاطر.
لا شك أن معرض "انفصال" توليفة صادقة وشجاعة وأصيلة للتأمّل حول معنى الأمومة والفن وتربية الأطفال، لا سيّما في مجتمعات اليوم، التي يتم فيها معاقبة الرضاعة الطبيعية. ربما لهذا السبب أرادت الفنانة "تعزيز الأسس العاطفية من خلال العلاقات الأولية"، الغائبة في طفولتها - على حد تعبيرها - ولهذا نراها ذهبت بعيداً في الأمر، حيث قامت بإرضاع توأمها رضاعة طبيعية حتى بلوغهما سن الخامسة، لتختتم فترة حيوية وفنية تُقدم على أنّها تتويج لهذا العرض.
من الجدير بالذكر أن أندريا كوستاس لاغو (1978) فنانة بصرية وأستاذة التصوير في كلية الفنون الجميلة في "جامعة فيغو". على الرغم من شهرتها في التصوير الفوتوغرافي، إلا أنّها طورت عملها الإبداعي باستخدام لغات مختلفة مثل التركيب أو الفيديو أو الأداء. عرضت في دول عديدة مثل فرنسا والولايات المتحدة الأميركية.