أُولى الصّعوبات التي تَعترض قارئ كتاب "سيزيف لم يَمت" للسينمائي الفرنسي باتريك بروني (1947)، الصادر منذ أسابيعٍ في تونس عن "دار كلمة"، هي تصنيف نصّه. يستعصي الكتابُ على التبويب العابر، ولا يُساعد عنوانُه، الذي بَعث من غياهب الأساطير شخصيّةَ سيزيف، على تصنيفٍ أجناسيّ له. فهل يَنتمي هذا النصّ إلى جنس السّيرة الذاتية، بما أنّ الكاتبَ التزَم هنا سردَ أهمّ الأحداث التي أثّرت في حساسيّته وانتقى أكثرَها تأثيرًا في نفسيّته وعَقله؟ لكن، ليس ثمّة من خطّية واحدَة يسير عليها السّرد وتتبعها الحِبكة القصصيّة، أم هل هو رسم سينمائي لبعض عهود السينما الفرنسية، يستبدل الكلمة بالصّورة من أجل متابعة أهمّ وجوهها وفصولها خلال العقود الماضية؟
تدعم الأبوابُ الأولى من الكتاب الفرضيّةَ الثانية، ويؤكّدها أيضًا عددُ أسماء المخرجين والممثّلين الذين صنعوا تاريخ السينما الغربيّة طيلة القرن العشرين، فإنّ انفتاح النصّ على قضايا الموت والحياة والصلات المُقدّسة بِالأم والأبناء والمرأة وأسباب الفقر والغنى والعطالة والنفوذ، وغيرها من كبريات الأسئلة الوجوديّة، يجعل منه أقرب إلى تأمّلاتٍ لا تنقضي وتفكير لا يني في معنى الكينونة من خلال التجربة الفرديّة والفريدة جدًّا التي خاض غِمارها الراوي، منذ ولادته قبل أكثر من سبعين عامًا.
وفي هذه المغامرات، يتصدّر العالَم العربي مكانةً كبيرة ويحتل من النصّ أكثرَ من نصف فصوله؛ حيث تدور الأحداث حول استحالة تصوير شريط "المعركة البحرية" في اليمن، في الفترة الممتدّة بين 1996 و2003، بعد أن انقَطع الرّجاء إثر سنواتٍ طويلة من المفاوضات والشروح، بين فرنسا التي يَصدر عن مرجعياتها بروني ومديرُ إنتاجه، وحساسيات هذا البَلد العربي، ذي الأصول والتقاليد القَبَليّة. وتجري بعض لوحاته الأخرى في فلسطين وليبيا والأردن وتونس وقَطر.
إلا أنَّ هذا العالم العربيّ الذي يستدعيه بروني يبدو أقرب إلى الخيال، نَسَجَه عبر خطاب الاستشراق الحالِم، الذي طالما كان يحنّ إلى الشرقِ، موطنَ سحرٍ، ويرى فيه أصلَ الجمال ومَنبعَ السرّ، ولذلك لا نكاد نعثر على هذا اليَمن الذاتي، في أيّة خريطة جغرافيّة حقيقية.
العالم العربيّ الذي يستدعيه بروني يبدو أقرب إلى الخيالس
ينقسم الكتاب الى أربعة وعشرين فصلاً، حيث استوحى صاحبُه هذا التّقسيم من عَمَله كَمخرج سينمائي، تعوّد أن يقيسَ كلّ مشهد مُصوَّر بوحدة مرئيّة طولها 24 ثانية، فَجعل من حياته كلّها مشهدًا تصويريًّا، شديد الكثافة والإيحاء، وزّعَه على لحظات متعاقبةٍ، هي لحمة هذا الكتاب وأبوابه. وفي كل بابٍ منها، يقصّ ما عاناه وهو يحتكّ بالعالم، يصارع الأقدارَ ويَمتح من اليأس والهزائم، يجعل من كل خَيبةٍ نقطةَ انطلاقٍ جديدة، لا تفلّ من عزيمته.
أكبر تحدّياته مشروع شريطه، "المعركة البحرية"، في إشارة إلى اسم لُعبة طفوليّة، كَتب نصَّه مع الشاعر الفرنسي برنار نويل (1937 - 2021) وحَلَما فيه بنقل باريس ورموزها إلى اليمن. مشهد شعريّ- سينمائي تتعانق فيه الحضارتان وتلتقي ثقافة الغرب الحديث بماديّته مع يَمن الأحلام والرؤى، فيغيضَ هناك في صحاريه وواحاته.
وأمّا اللغة التي كُتب بها هذا النص، فهي لغة العاطفة التي تنقل مَشاعرَ فردٍ معزول هشٍّ، حيالَ نظام عالميّ، حشر نفسه فيه دون سابق استعدادٍ ولا تسلُّح، تصدمه الآليات البنكيّة الأكثر غموضًا وتعقدًا في عصرنا، مع سَفَرات ماراثونية إلى العاصمة السويسرية بحثًا عن تمويل، تتخلّلها لقاءات رسمية مع بعض القادة الذين تصدّروا المسرح السياسي في العقد الماضي، مثل حمد بن خليفة، وياسر عرفات، وعلي عبد الله صالح، ومعمّر القذّافي، ونيكولا ساركوزي وغيرهم كثير، وكلُّهم خاطبَهم باتريك بروني، يروي لهم، ندًّا لِندٍّ، حلم نقلِ باريس إلى اليمن، آملاً في الحصول على دعمٍ سياسيّ، بالمعنى العميق، بما هو تأثير في قدر الإنسان ضمن منطق الدولة، تأثير أرادَ بروني أن يكون من خلال الكلمة والصّورة. فقد اجتهد في تحبير سيناريو يكون وسيلةَ تقارُبٍ بين عوالم تتضارب مصالحها بعد أن صار العنف الدموي قاعدةَ التعامل خلال العَقديْن الماضيين، ضاربًا بوحشية كلّ فرصة للحُلم والرؤى والفنون.
"ينتقد نفاقَ الغرب ويحنّ إلى صفاء البدايات في صحراء اليمن"
لذلك، كانت كلُّ جملة سردية حاملة لهذا الألم الممتزج بالسخرية والمقاومة، مزيجٍ عاطفي نادر: ينتقد النفاقَ الغربي ويحنّ إلى صفاء بدايات الإنسان، ذاك الذي لَمَحه في صحراء اليَمن وعمارة صنعاء وأساطير بلقيس ومأرب. ولكنه حُلم محجوز بسبب تعقّد الواقع العربي وحقيقة الصرعات البينية، بين مشرقه ومَغربه، ثم بينه وبين ضفّة المتوسّط الشماليّة.
نقل بروني كلّ دقائق حياته في سحرها ولكنّ أصدقَ عواطفه ما كان فيه طفلًا وأبًا، رفيقًا وعاشقًا، ولعلّ أقوى المشاهد تلك التي يروي فيها كيف أشرَف على الموت بإحدى صحاري قطر، وحيدًا أدركه العطش لولا أن تداركته سيّارة، وتلك التي يعيش فيها لحظات والدته الأخيرة، تموت بين يَديه بعد أن رقصت رقصة التانغو مع طبيبها، آخر فرحة لها في حياة صعبة، وتلك التي يقصّ فيها سَجن ابنه في إيطاليا ولمّا يتجاوز الخامسةَ عشر بسبب حبّات كوكايين في تُبّانه الصغير.
في هذا الكتاب تَظهر أكثر من مئة شخصية أعطاها الكلمةَ وأخذ منها بروني ما زيّن بها سرديّته. فكلّها واقعيّة، عاشت فعلاً واحتكَّ بها، بعضها شخصيات عموميّة مشتهرة، انحدرت من عالمَيْ السياسة والسينما، وبعضها كيانات هلامية تَظهرُ لتختفي بسرعة مثل شرطي يبكي، سائق تاكسي يثرثر أو "كومبارس" سينما مات على أرضيّة التصوير، وهكذا استعادَت ريشتُه الوصفيةُ تفاصيلَ أسعدته أو أبكته، فأدمجها ضمن نظرته الكليّة للحياة وتَحليله للطبيعة الإنسانيّة في أيامنا المعاصرة. ودون تجريد فلسفيّ خاض في أعماق النفس البشريّة، التائهة بين زحمة المُدن وهَيمنة الاستهلاك وتفاهة الحسابات السياسية.
رغم ذلك، لا تنافر بين هذه المناخات القاسية من المدن الضخمة إلى الصحارى الشاسعة وبين لغة الرّواية التي تستقي من سِجلّات الوجدان مَعينها، تجتهد في تصوير منعرجات الذات ولحظات شقائها وسعادتها، غَضَبها ورضاها خلال التجارب العديدة والأسفار الطويلة التي خاضها. فليست هي بالضرورة لغة شعريّة ولا مَلحميّة، وإنما هي واقعيّة صادقة، قاطعة، تجلي ما في نفسيّة كاتبها من آمال وخيبات وهو يصارع الأقدار والسياسات لإنجاز فيلم يدرك قبل غيره استحالتَه، كما كان يغترف من اليأس والسخرية، يذيبهما كلمات وفقرات متتالية. وهي لغة صريحة تُسائل السياسيّين الفرنسيّين والعرب وتَضعهم أمام تناقضاتهم، دون أن تنتقدهم مباشرةً، وإنما بإيحاءات تُظهر مدى تهافت شعارات طالما تاجروا بها.
ولا نَنسى أنَّ بروني لم يأت إلى الأدب من خلف مَقاعد الجامعات ولا من أروقة المَعاهد، بل إنّه غادَر المدرسة صبيًّا فلم يتجاوز الأقسام الثانويّة، ومع ذلك تشبّع من كُتب المُجتمع وفنون الصّورة، واستفاد منها ما شحذ أسلوبه وأثراه بتعابير فَريدة تَعدل عن الصّيغ والتراكيب القواعديّة ولكنها لا تنتهكها، كأنما صنع نحوًا خاصًّا به، تَجاوز به الاستخدام المألوف.
"سيزيف لم يمت" مغامراتٌ في الواقع ورسومٌ في اللغة تروي جمالية الاستحالةَ وصمود اللاشيء. هذا العَدم الذي يحرّك التاريخ ويصنعه باستيحاء بدايات الإنسان في ذلك اليمن السعيد، البعيد.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس