"بقي المشهد الأخير عالقاً"

24 يوليو 2024
رسم للفنانة الفلسطينية يارا زهد
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في السابع من أكتوبر، تعطلت حياتي بسبب الحرب على غزة، حيث خسرت الاستديو الخاص بي واضطررت للهرب من منزلي تحت القصف، مما أدى إلى لحظات مرعبة مع عائلتي.
- بعد فترة من الصدمة، تلقيت اتصالاً من طفل نازح يطلب برنامج ستوب موشن، مما أعاد لي الأمل وبدأت ورش عمل للأطفال في الخيام، وأنتجنا فيلم "طوابير".
- لاحظت تفاعل السيدات مع ورش الرسوم المتحركة، فنظمت ورش خاصة بهن، وأنتجنا أفلاماً تعبر عن مشاعرهن وتجاربهن، مما جلب لهن السعادة والإبداع.

في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر يوم السبت كنا نستعد جميعا لتصوير المشهد الأخير من فيلم كرتوني يتناول قضايا الفتيات ذوات الإعاقة السمعية أثناء ورشة العمل.

خلال العام الماضي، حقّقت حلمي الذي لطالما راودني وهو تجهيز الاستديو الخاص بي لإنتاج أفلام كرتون ستوب موشن، وتكوين فريق عمل "حكاوي للرسوم المتحركة"، المكوّن من ثلاث فتيات وشابين من ذوي المؤهلات الفنية الخاصة، منهم فتاة من ذوي الإعاقة السمعية. خسرت الاستديو مؤخراً خلال الحرب القاسية على غزّة، حيث إنني خرجت من مدينة غزّة بعد التهديدات الإسرائيلية للجميع بالإخلاء إلى المناطق الجنوبية؛ القصف حول منزلي من جميع الاتجاهات، خاطَر أخي بنفسه وأحضر سيارته من مدينة دير البلح جنوب الوادي وجاء لمدينة غزّة لجلبي من هناك. خرجت فوراً معه كانت هذه المرة الأولى التي أخرج فيها من محيط سكني، بالقرب من مجمع الشفاء الطبي، منذ بدء العدوان.

كنت أسمع وأتابع الأخبار لحظة بلحظة وأشاهد فيديوهات الدمار، والقصف الذي تتعرّض له المدارس والشوارع والمنازل، ولم أتخيّل أنني سأرى كل هذا الهدم والخراب على أرض الواقع، فالدمار في كلّ مكان بحيث لا يوجد منطقة سليمة  لم تمسّها الحرب.

وما أن وصلت إلى بيت أهلي حتى ارتميت في حضن أمّي وانهرت بالبكاء، وبللت دموعي حضنها. أمي ليست مجرّد أم والسلام، بل هي صديقة ورفيقة ومخرجة وقارئة مثقفة متعلمة، كانت تشاركني في كلّ أعمالي وتناقشني في أفكاري وقصص أفلامي، وفي طريقة إخراجي للقصص واختيارات للألوان والموسيقى.

بينما كنت في حضنها، حدَث انفجار قوي هزّ المنزل بأكمله، وتحوّل كل شيء إلى غبار

بينما كنت في حضنها، حدَث انفجار قوي هزّ المنزل بأكمله، وتحوّل كل شيء إلى غبار. سقطت الشبابيك على رؤوسنا، وكان الزجاج في كلّ مكان، وتحطمت الأبواب، وملأ الدخان الهواء. تمّ قصف منزل أحد الجيران وتدميره بشكل كامل على ساكنيه. قمت بتشغيل المصباح في هاتفي لرؤية وجه أمي. هل هي بخير؟ وعندما تأكدت من ذلك، ذهبت للبحث عن أبي وإخوتي وأطفالهم. لقد غير الغبار ملامحنا. هناك خمسون نازحًا من عائلتي الكبيرة في منزل والدي من الأقارب والأعمام والعمات.  

ابنة عمي نازحة تركت بيتها في شارع الجلاء بمدينة غزّة. اسمها وصال وعمرها ثلاثون سنة، وتعاني من إعاقة سمعية، ومع ذلك تشعر بكلّ شيء: القصف والدمار والاهتزازات. تتحدّث معي بلغة الإشارة. كنت أتواصل معها بلغة الإشارة طوال الوقت. حين يحدث قصف تسألني بالإشارة: هل شعرت بالقصف؟ هل هذه قذائف؟ وصال تبكي دائماً لأنها فقدت غزة وتفاصيل حياتها هناك. ولا تستطيع التواصل مع أصدقائها والتحدث معهم. تغمض عينيها دائما تسترجع كل ذكرياتها في غرفتها، شارعها، مكان عملها، البحر، والسماء. صديقتي سحر استشهدت في قصف إسرائيلي على مستشفى ناصر في خانيونس. كان الخبر مؤلماً وقاتلاً. أفتقدها جداً، كانت من أكثر الأشخاص المشجعين لي ولجهدي، ودائماً كانت تنتظر على أحرّ من الجمر كلّ جديد من الأفلام، التي أصنعها مع الأطفال، إذ تعشق الأطفال جداً وتعشق قصصهم وتحب الحوارات المتشعبة التي تخضوها معهم. 
 
الآن لا يوجد هناك سحر. أخذتها الحرب ومضت.

■ ■ ■

عشتُ الشهر الثاني من الحرب وأنا مكبلة اليدين، لأنني كنت في حالة صدمة لم أمسك ريشة أو لونا ولم أرسم شيئاً، ولم أخلق شخصية لفيلم جديد. كما لم افتح اللابتوب إطلاقاً طوال كل تلك الفترة. 

ظلت هذه الحال إلى أن جاءني فجأة اتصال على تطبيق الواتساب، من أحد الأطفال؛ نازح من غزّة وهو في مدينة دير البلح حالياً، سبق وشارك معي في إحدى ورش الرسوم المتحركة قبل الحرب، طالباً مني برنامج ستوب موشن المخصّص لتصوير أفلام كرتون على الموبايل، وسألني العديد من الأسئلة لرغبته في أن يقوم بعمل فيلم كرتون عن الحرب. أخبرني: "ياريت تنزلي انت معنا على الخيمة، تعلمينا كلنا جوه الخيمة كيف نعمل أفلام نتسلى فيها"، ثم أضاف: "في صغار كثير في الخيمة".

انطلقتُ لفئة جديدة بعدما لاحظت مدى تفاعل الأهالي مع أطفالهم في ورش الرسوم

كان هذا الاتصال كافياً لأن يغير مجرى حياتي في النزوح، حيث قررت أن أخرج من شرنقتي، ومن حالة العزلة التي أعيشها، وأن أجرب أن انزل للشارع وللسوق. كانت تلك المرة الأولى التي أخرج فيها من منزل أسرتي، في ظل القصف المتصاعد والعنيف، حتى أشتري مجموعة من الألوان والأوراق. كنت آمل أن أجد أيّة مكتبة تبيع القرطاسية في ظل هذه الظروف. أصابني شعور مرير، وتألمت من قسوة ما شاهدت في الشوارع،  قلوب الناس تمشي وهي محترقة ومتألمة ومجروحة ومكسورة، أطفال تجري حافية، في ظلّ البرد القارس والمطر الغزير. تجمعٌ كبير لجمهور من الصغار والكبار والنساء والشيوخ حول منتجات ومعلبات للبيع. ويندفع الكثير من الناس نحول يسألونني: هل تعرفين من أين نشتري طحين؟ بدنا طحين؟

أصوات كثيرة  في الشارع... ابني اتصاوب، والله سبت بيتي فيه جرتين غاز، بس لو يرجعونا للشمال، والله اتبهدلنا، حسبي الله عليهم، الأسعار سياحية ارحمونا، شفت كرتونة البيض بـ 60 شيكل، بدور علي ترن (بدلة رياضية) لأولادي، بلاقي عندك شريط فولتامول؟ أو أي دواء مسكن للألم؟ كيس الطحين بـ 500 شيكل، يا أختي من وين نشتري محارم؟ 
-    (يلا يا شبسي يلا يا شبسي) بكم بكيت الشيبسي؟
-    بـ ٤ شيكل البكيت.
-    أوف أبو نص شيكل صار بأربعة.

 بدءاً من تلك الحظة، رجعتُ للبيت، وقررت في اليوم التالي أن أذهب إلى الخيام بين الأطفال والسيدات حتى أمارس هوايتي المفضلة بتدريبهم على صناعة الأفلام، وعلى إخراج أفلامي الخاصة في ظلّ الحرب.  وفعلت ما قررته إذ كانت أوّل ورشة مخصصة للأطفال أقيمها في الخيام، نتج عنها أول فيلم كرتوني في الحرب بعنوان" طوابير". كان الفيلم يتحدث عن معاناة الأطفال في الخيمة والطوابير وكيف كانوا يتغلبون على مشكلة عدم توفر المياه للشرب وللاستخدام البيتي، وعلى عدم توفر الغاز والحاجة لإيقاد والنار، وما كانوا يقومون به من جلب الحطب وتوفير الخبز، وربما حاجتهم للعب فهو لا يملكون الكثير من الوقت للعب في ظل ضرورة الانتظار في كلّ تلك الطوابير اليومية التي تملأ وقتهم كله تقريباً. 

تحدثنا عن اللعب والاشتياق له وعن الفقد، وتحدث كل طفل عن ما يحلم أن يقوم به بعد أن يعود للبيت، وبعد أن يجد نفسه في غرفته بعيداً عن الحارة والشارع. تحدثنا عن مساعدة الأهل في الخيام، وكيف ابتكر الأطفال أفكاراً مبدعة ليخففوا عبرها من معاناتهم ومن قسوة الحياة في الخيمة، فممنهم من صنع دولاباً لوضع الملابس الخاصة فيه من كراتين الكابونات، ومنهم من ساعد والده في  تركيب سرير حتى ينام جده من خلال خشب صناديق البضائع الكبيرة. طفل أخبرني أنه قام بصناعة عمل عربة تسير على عجلات يضع عليها غالونات الماء الحلوة الصالحة للشرب ويجرها.

في المحصلة، فإن حياة الأطفال صارت طوابير، وطوابير طويلة من الانتظار. 

■ ■ ■ 

انطلقتُ لفئة جديدة بعدما لاحظت مدى تفاعل الأهالي مع أطفالهم في ورش الرسوم، ورغبتهم في أن يجربوا وحاجتهم لمثل هذه الأعمال الفنية، خاصة أن أغلب السيدات يفتقرن لوسائل التعبير الحر البسيطة، والسهلة في ظلّ الأوضاع الحالية. 

اجتمعنا حول ست طاولات وخمس صوان في ورشة رسوم متحركة. تحدثت إليهن كثيراً خلال نشاط سرد القصص والحكايات، لأكتشف أنهن كلهن كن ينتظرن دورهن في الحديث، وسرد القصص والتفرغ ليعبرن عما في دواخلهن، خاصة أنهن اشتكين لي أنهن يمضين وقتهن بين  الغسيل والنار والطبخ وتنظيف الخيمة وتنظيف البنات من القمل. يعشن في خيمة مساحتها أربعة في أربعة. هذه هي حدود عالمهن.

عبّرن عن مشاكلهن ومعاناتهن من خلال موضوعات محددة، وأجمعن على اختيار موضوع "الخصوصية" في الحياة بين الخيام كموضوع للسرد. في الخيام السيدات يفتقرن للخصوصية.

صنعن الشخصيات الكرتونية حيث صنعت كل سيدة شخصية تشبهها إلى حدّ كبير في طريقة اللبس والملامح، كما قمن بتلوين ما رسمن. تعلمنّ كيف يقمن بالتصوير والتحريك، وأنتجن فيلماً كاملاً مدته خمس دقائق اسمه "قيد خيمة"، وفيلماً آخر اسمه "خريف أحمر"، يتحدث الفيلمان عن النزوح، وكيف نزحت كل سيدة من بيتها، وكيف كانت مشاعرهن أثناء النزوح، وما الذي تمكنّ من أخذه معهن لحظة الخروج. وصفن خلال الفيلم مشاعرهن مع أطفالهن لحظات النزوح.

وقمن بتسجيل صوتهن وإسقاطه على شخصيات الفيلم، فيما أخذت كل سيدة دوراً يشبهها. إحدى السيدات أثناء العرض النهائي للفيلم قالت: "التجربة هاي جديدة أنا راح أجرب أعمل فيلم من خيمتي مع ولادي بدل ما طول الوقت قاعدين برا في الشمس  بين الرمل".

لقد عاشت السيدات لحظات من السعادة، لأنهن أحسسن بأول إنجاز يقمن به في زمن الحرب. قالت لي رزان، وهي إحدى المتدربات، "أخدتونا من جو الحرب". 

أم حمزة، سيدة كبيرة السن، كانت عندها أفكار رائعة للفيلم تشارك معنا بحماس منقطع النظير، وكان زوجها ينادي عليها بين وقت لآخر لتحضر أشغال الخيمة خاصة الطبخ، وكانت تذهب وتعود مسرعة لتواصل عملها معنا. أيضاً كنّتها كانت تحضر الورشة، وهي تحمل ابنها في حضنها. تناقش وترسم وتلون. الحماة وكنّتها. 

ثمة أفلام بحاجة لصناعة.


* صانعة أفلام أطفال

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون