بلال عوض سلامة: انتفاضة 2021 من منظور "حرب الأمكنة"

30 يناير 2024
قوّات الاحتلال تعتقل شابّاً خلال "مسيرة الأعلام" الاستيطانية، القدس، 18مايو 2023 (Getty)
+ الخط -

في 24 أيار/ مايو 2015 نفّذ شابٌّ مقدسي اسمُه جون وليم قاقيش عملية طَعْنٍ في البلدة القديمة، استهدف فيها مستوطناً صهيونياً، وفي إفادته لـ"جهاز الشاباك" الذي تولّى التحقيق معه، يصرخ المُحقّق بوجهه: "أنتَ مسيحي!"، فيردّ قاقيش: "مسيحي الديانة، مُسلم الهوى، فلسطيني الهوية، مقدسيٌّ ثائر". تُلخّص هذه الحادثة تاريخاً من المُقاومة المقدسية، منذ انتفاضة موسم النبي موسى عام 1920، مروراً بثورة 1936، وهبّات أعوام 1969 و1974 و1976 و2000 و2015 و2017 وصولاً إلى هَبّة الكرامة أيار/ مايو 2021، التي ينطلق الباحث الفلسطيني بلال عوض سلامة منها في كتابه "في معنى المكان: وحيٌ من دروس المُقاومة المقدسية" ("مركز دراسات الوحدة العربية"، آذار/ مارس، 2023).

يستكمل سلامة في كتابه هذا رؤيته التي اشتغل عليها في عملٍ سابق له بعنوان "في معنى الأرض: استعادة الذات الفلسطينية" ("المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، 2021)، فيحدّد، منذ البداية، سمات الاحتلال الإسرائيلي، كاستعمار استيطاني ذي طابع إبادي، و"في حال تعذّر عليه المحو البيولوجي للشعب الفلسطيني يلجأ إلى ضبطه عبر منظومة من الإجراءات العسكرية والمدنية ما يُبرز سمة ثالثة له كنظام فصل عنصري"؛ فضلاً عن ربط وجوده بادّعاءات دينية. 

ولـ"فهم معنى المكان"، يوضّح الباحث منهجيّته في تبنّي توجُّهٍ إثنوغرافي في تحليل الوقائع والأحداث اليوميّة، إلى جانب توجُّهات تحليلية بالاستناد إلى اشتغالات مُنظّرين عُنوا بفلسفة المكان، مثل فرانتز فانون (تجاوُز الهندسة الاجتماعية)، ومارك أوجيه (محاولات الاستعمار احتلال الذاكرة، والاستعارة المفاهيمية للمكان/ اللّامكان)، وآصف بيات (تجاوُز الاستلاب واستعادة المكان)، وغاستون باشلار (التجارب المشتركة من البيت إلى الحيّ).

معركة استنزفت المؤسسة الأمنيّة والعسكرية للاستعمار

هذ الإطار النظري يَظهر بوضوح في الفصل الأول "في معنى المكان؛ القدس كبلدة- الله والفلسطيني - العتيقة"، والذي يأتي فيه الباحث على ذِكر حادثة الطَّعن التي نفّذها قاقيش: "أتريدُ أن أرى المستوطنين يُدنّسون المسجد الأقصى وأبقى هادئاً، تعتدون على المُرابِطات وتُريدون أن نبقى نتفرّج"، يُتابع الشابّ إفادته للمُحقّق. كما يتناول سلامة في هذا الفصل باب العمود بوصفه "رئة الحياة وشبكة العلاقات الاجتماعية"، فعندَه تتقاطع شبكةٌ مُعقّدة ومتداخلة للواقع الفلسطيني اليومي المُعاش، فمنفّذو عمليّات الطَّعن عند باب العمود شبابٌ استفزّتهم الممارسات الاستعمارية. الشهيد بهاء عليّان مثلاً، نسّق في العام 2015 أكبر سلسلة قراءة لشباب جبل المكبر على أسوار البلدة العتيقة عام 2015، تظاهرة احتجاجية وثقافية لم تشهد مثلها القدس، كان باب العمود نقطة الوصل لها، ثم امتدّت إلى باب الأسباط والجديد بحضور أكثر من سبعة آلاف مُشارك، قبل أن يستشهد عليّان في عملية نفّذها بباص إسرائيلي من العام نفسه.

ويُمثّل الباحث لمفهوم "البيت الفلسطيني" بأحداث الشيخ جرّاح وبلدة سلوان؛ والمقولة المُتغطرسة لمستوطن يُخاطب امرأة مقدسية تدافع عن بيتها: "إن لم أسرقه أنا فسيسرقه غيري"، وهذا كما يُؤكّد سلامة "ليس مُنفصلاً عمّا يختبره الفلسطيني عن التطهير العِرقي المستمرّ منذ بداية الصراع". هدمُ البيوت أو "الاستدمار" سياسةٌ عقابية تُستخدم ضدّ الفلسطيني لدفعه إلى الهجرة، أمّا التمثيل الموسّع لـ"عقيدة الصّدمة"، فهي هَدْمُ الأبراج السكنّية فوق رؤوس قاطنيها في غزّة.

في الفصل الثاني، يعرض الباحث لـ"المشهد المكاني وسياقات العمل في القدس"، ومن خلاله ينفَذُ إلى حالة استلاب المكان في البلدة العتيقة، حيث وضعت السياسات الاستعمارية المَقدسيّ في "اللّامكان" (أوجيه)، وتمّ التعامُل معه بوصفه "مُقيماً وليس مواطناً" ("قانون تنظيم الأجانب في القدس"، 1952). ويُقسّم سلامة الهندسات الاجتماعية التي مورست على المكان المقدسي إلى ثلاثة أنواع: الهندسة المكانية/ الزمانية (الأبراج العسكرية ونقاط التفتيش)، والهندسة الاقتصادية (التبعية واستلاب السوق الفلسطينية)، والهندسة البيو-سياسية (السيطرة على الوعي والجسد والسلوك).

في معنى المكان - القسم الثقافي

على مستوى آخر، يلفتُ الكتاب إلى "مليشيات المستوطنين"، وخريطة الفظاعات التي ترتكبها هذه المجموعات، والعقائد التي تتغذّى عليها. لنجد أنّ تقاليد التطهير العِرقي التي قادت إلى نكبة عام 1948 على يد "هاغاناه" و"إرغون" و"شتيرن"، ما زالت مستمرّة اليوم تحت مُسمَّيات "لاهافا" (امتداد لحركة "كاخ" الإرهابية التي حُظرت عام 1994) و"إلعاد"، و"تدفيع الثمن"، و"بريت هكانائيم"، و"الأنوية التوراتية"، و"شبيبة التلال". فعلى يد عناصر إجرامية تابعة لها أُحرق الطفل محمد أبو خضير عام 2014، وأُضرمت النار بمنزل عائلة الدوابشة في نابلس عام 2015.

"الاستدمار" سياسة عقابية لتيئيس المقدسيّين وتهجيرهم

في مقابل هذه الحركات الاستيطانية يحضر باب العمود مرّة أُخرى، حيث يُفصِّل سلامة هويّة الحضور الشبابي فيه، مُستعيناً بفكرة آصف بيات عن "الحِراكات الاجتماعية"، ويُطبّقها على استعادة باب العمود في أيار/ مايو 2021، و"بشكل رمزي أخَذ أبعاداً احترافية في إدارة المعركة، أدّت إلى استنزاف كبير للمؤسسة الأمنيّة والعسكرية للاستعمار". فالشّارع أو الساحات، حسب بيات، "أماكن تتشكّل فيها هوياتهم (الناس)، ويوسّعون صور التضامن ويوسعون دائرة احتجاجهم"، وهذا تُرجِم وفقاً لسلامة بالهتاف في ساحات الأقصى لقادة المقاومة وعلى رأسها محمد الضيف، ومن ثم إعلان عملية "سيف القدس" في العاشر من أيار/ مايو من العام نفسه، وكذلك إعلان الأب مانويل مسلّم أنّ على المسيحيّين الحضور والرباط في المسجد الأقصى والدفاع عنه.

"حرب الأمكنة" مصطلح مفتاحي في الكتاب، ومن خلاله ينفَذُ الباحث إلى تشريح واقع هبّة الكرامة "فمِن دون المكان لا يُمكن أن يكون للُّغة السياسية والفعل السياسي معنى ودلالة"، وفي حرب الأمكنة يجب أن يكون "الحفاظ على الذات وإفناء العدوّ"، كما الحال مع حرب الغوار (ماو تسي تونغ)، هو القاعدة الأساسية. ولكنّنا نتساءل: لماذا لا يحتاج العمل الميداني في حرب الأمكنة إلى قيادة مركزيّة؟ كما يُوضّح الباحث في تحليله (ص123). هُنا كان يُفضَّل أخْذُ مسافة نقديّة نوعاً ما، خاصّة أنّنا عاينّا في العقد الأخير، ما أصاب حركات شعبيّة واسعة حول العالَم في مَقتل، نتيجة انعدام القيادة، أو بالأحرى كَيْل المديح الزائد لحالة الحَشْد الذي لا قيادة له.

في الفصل الأخير "الطبقة الوسيطة وثرثرة نوستالجيا الانتفاضة الشعبية"، ينتقد سلامة أصوات "العقلانية المُفرطة"، على حَدّ تعبيره، وهُم المُنادون بالواقعية السياسية ويتوزّعون ما بين مثقّفي السُّلطة وأعضاء عرب في "الكنيست"، وناشطي جمعيّات غير حكومية "يخشون على صورة التضامُن العالمي مع القضيّة الفلسطينية (في حال استدعاء السلاح)، وكأن من دون التضامن سيصبح النضال الفلسطيني عدميّاً". يستحضر هؤلاء، حسب سلامة، انتفاضة عام 1987 كلحظة نوستالجية، وينحازون "ظاهرياً" لها، "هذه الطبقة الوسيطة تختار الخطاب الظاهري لتأييد الانتفاضة الشعبيّة، رغم أنّ هذا الحنين ضَرْبٌ من التوهُّم في اللّامكان الاستعماري".

ختاماً، صحيحٌ أنّ الكتاب قد صدر قبل عامٍ تقريباً، لكنّ الواقع سرعان ما انقلب بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، وشروع الاحتلال بحرب الإبادة الجماعية، ردّاً على عملية "طوفان الأقصى"، التي يمكنُ قراءتها، إلى حدّ ما، من منظور "حرب الأمكنة"، أو على الاعتبار أنّ هذه الأخيرة قد مهّدت للعملية. ولئِن كان الكتاب يُلخّص عوامل الانتفاض واستراتيجيات المقاومة في هبّة أيار/ مايو 2021، فإنّه يُمهّد بشكل أو بآخر للنظر في الرّاهن، مع فارق أنّ فعالية الانتفاضة في المناطق المحتلّة عام 1948 كانت قد وصلت إلى ذروتها في هبّة عام 2021، في حين أنها تشهد اليوم "سُباتاً استعمارياً" (فانون).
 

   

المساهمون