رغم بضعة أعمال ناجحة، لم تعرف الرواية البوليسية عربياً حالة من التراكم كما نجد ذلك في ثقافات أخرى. وأكثر من ذلك، يبدو هذا النمط الروائي منسياً من دوائر البحث العلمي والنقد الأدبي. يأتي كتاب "السرد البوليسي في الرواية العربية" للباحث التونسي بلقاسم مارس ليكسر حالة الغياب هذه.
حول تبلور فكرة العمل الذي صدر مؤخراً عن منشورات "كلمة" في تونس، يقول مارس في حديث إلى "العربي الجديد": "تثير الرّواية البُوليسيّة، أو التوجّه البوليسي في الرواية، مجموعة من الإشكاليات في سياق ثقافتنا العربية فهي من من الأشْكال السّرديّة التي اعْتبرت مُتمرّدة على الاسْتعارة، ولقد سعيتُ في كتابي إلى تبيّن خصائص هذا الصنف من الروايات ومُميزاته من حيث أشكالُ إنْجازها وحبْكتها وطبيعة الأحْداث فيها وتنوّع شخْصياتها من قبيل المجْرم أو المتّهم أو الشّرطة أو المحقّق الذي يُنجز رحلته بحثاً عن الحقيقة".
يضيف: "وبالنّظر في النّصُوص الإبداعيّة العربيّة حاولت الإجابة عن سؤال: هل إنّنا إزاء روايات بوليسيّة أم روايات تستعيرُ بعضًا من آليات الكتابة في الطابع البوليسيّ؟ لكنّ بلوغ هذه الغاية متّصل بضرورة معرفة القواعد المألوفة في كتابة الأدب البُوليسيّ الغربيّ وذلك للوُقوف على طرائق الانْزياح أو التّحْريف أو التّوْظيف، وبالتّالي تبيّن المقاصد والدّلالات من المسْرود الرّوائيّ وتبيّن أوْجه التّقارب والتّباعد بيْنها".
حين احتكّ الباحث التونسي بالمدوّنة الروائية العربية في إطار تفاعلها مع المنْجز البُوليسيّ الغربيّ وجد أنها "اسْتعارت بنيته من حيثُ أحْداثُها وشخْصياتُها وحبْكتُها التي بدتْ ضَامرةً ومفكّكةً حينًا ومُتماسكةً حينًا آخر" كما يقول في حديثه إلى "العربي الجديد"، ويضيف بأن "هذه الرّوايات العربيّة تقتربُ من التركيب الحكائي على سمت الرواية البوليسية على الأقلّ من خلال عنْصرين أساسييّن هما توفّر جريمة القتْل من ناحية وحضور التّحرّي والتّحقيق البوليسيْين من ناحية ثانية. لقد استطاع عدد كبير من الرّوائيين استثمار مكوّنات الرّواية البوليسيّة وآلياتها، منْ ذلك نذكر ما كتبه يُوسف القعيد وجمال الغيطاني وإلياس خوري وفرج لحوار ونجيب محفوظ ونبيل فاروق وصالح مرسي".
يذكر مارس بأن "الرواية البوليسية كما وضع قواعدها المنظّرون الغربيون هي رواية تنهض على احترام قواعد التّأليف في القصّ البوليسيّ والتي تقوم أساسًا على الجريمة والمطاردة وكشف السّر في نهاية أحداثها، ويُشترط في هذا النّوع من القصص البوليسيّ أنْ يستبعد التّحليل النّفسيّ والخطاب العاطفيّ والمعجم الوظيفيّ المرتبط باللّغة اليوميّة البعيدة عن التّقعر البلاغيّ أو الحذلقة اللّغويّة، فهي رواية تتميز بالحياد الإيديولوجيّ وتظهر في كثير من الأحيان مجرّد كتابة من أجل الكتابة ممّا يضعها في خانة الأدب الشعبيّ الذي ينشد الانتشار الواسع ويركّز على المتعة والتّسلية".
يؤكّد المؤلف بأن "الرّواية البوليسيّة ليست جنسًا أدبيًا مستقلاً بذاته عن بقيّة الأجناس الأدبّية الأخرى بل هي شكل من أشكال الرّواية أو هي نوع روائيّ مخصوص يستخدم الحبكة البوليسيّة ويوظفها في نسيجه السّرديّ، فاكتسبت لنفسها مجموعة من المقوّمات الحداثيّة جعلتها تتميّز وتتفرّد داخل الجنس الرّوائيّ دون أنْ تنفصل عنه، ومن ذلك أن الرّواية البوليسيّة شكل روائيّ قائم على السّؤال ضمن تطلّع الإنسان إلى الحقيقة وعلاقته بالعدل والمساواة والقانون. وهي مفاهيم تبلورت مع الحداثة حين عملت الرّواية البوليسيّة الغربيّة على خلخلة البناء الميتافيريقي للعالم، الموروث من القرون الوسطى، واستحضار التّفكير المنطقيّ العقلانيّ". وكأن محدّثنا يشير إلى أن توفّر مثل هذه العناصر أهم من توفّر الجريمة والمحقّق وغير ذلك من شروط الرواية البوليسية.