"بيروت" مُنح الصلح.. بعضٌ من سيرة بين جامعة وحيّ

20 أكتوبر 2024
الجامعة هي ما صنع الحيّ لا العكس
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يستعرض الكتاب تأثير حي رأس بيروت في حياة المدينة، مسلطاً الضوء على الجامعة الأميركية كمحطة بارزة في حياة مُنح الصلح، حيث التقى بشخصيات مؤثرة وانتمى إلى "جمعية العروة الوثقى".
- يتناول الكتاب التنوع الثقافي والديني في رأس بيروت، وتأثير العرب والفلسطينيين في المجتمع قبل النكبة، مع التركيز على دور "مطعم فيصل" في إثراء الحياة الفكرية.
- يقارن الكتاب بين الجامعة الأميركية وجامعة القديس يوسف، مشيراً إلى أن الجامعة الأميركية صنعت الحي، ويستعرض الفوارق الزمنية بين العصر الذهبي لبيروت والوضع الحالي.

تبدو استعادة بعض من سيرة الباحث والمؤرّخ اللبناني مُنح الصلح (1927 - 2014)، اليوم، ضرباً من الحفر الأركيولوجي الدقيق في معالم مكان بيروتي نعيشه ونمرّ به، عملٌ أشبهُ برفع غلالة عن مكان ماثل أمامنا عياناً لكنّ التبدُّلَ فيه يعتمل بقوّة، وقد أرادت "دار نلسن" لهذه الاستعادة أن تكون بمثابة تحيّة بعد عشر سنوات على رحيل صاحبها. وعلى هذا الأساس صدر حديثاً كتابٌ عنوانُه "رأس بيروت، العصر الذهبي.. الجامعة والحيّ"، أعدّه وقدّم له الكاتب والناشر سليمان بختي، في اختيار هو قطعة من عقل وقلب صاحبهما المهموم بأحوال المدينة وسيرورة المدَنية فيها ومآلاتها الراهنة.

يتضمّن الكتاب نَصَّين للراحل مُنح الصلح؛ الأوّل بعنوان "فصول من ذكريات" رواها لمحمد أبي سمرا، ونُشرت في مجلّة "المسيرة" عام 1980، والثاني "رأس بيروت.. العصر الذهبي"، نُشر في مجلّة "بيروت والعالم العربي"، عدد نيسان/ إبريل 2007.

نقف في النصّ الأوّل على النشأة بمحلّة الناصرة بين رأس النبع والأشرفية، يقول الصلح: "وكأنّني وُلدت في دمشق. أوّل زعيم أحببتُه هو إبراهيم هنانو وأوّل شهيد حفظت اسمه هو يوسف العظمة". وعلى الطاولة صورةٌ تُذكّره بمشروع "الفرنك" الذي أنشأته الكتلة الوطنية في سورية لجمع التبرعات فرنكاً فرنكاً من أجل الثورة الفلسطينية، وفي المنزل جرائد من بلاد عربية بحُكم أنّ والده عادل الصلح امتلك وإخوته جريدة "النداء". وهنا يلفت إلى أنّه، حين كان صبيّاً، انتبه إلى أنّ المحرّرين فوضويون ويتخاطبون متجادلين بصخب بينما عمّال المطبعة صامتون منضبطون.

أثّر حيُّ رأس بيروت في حياة المدينة ومنحها طابعاً عصرياً

وبالوصول إلى المحطّة الأبرز التي يرويها، وهي "الجامعة الأميركية" في بيروت، نجده يأتي على سيرة جورج حبش وهاني الهندي وكريم مروة وأحمد الخطيب؛ الطلّاب العرب الذين التقاهم فيها، ويتحدّث عن انتمائه إلى "جمعية العروة الوثقى" داخل الجامعة التي أسّست لجوّ ليبرالي جديد ولحيّ مديني متنوّع.

أمّا في النصّ الثاني، فنقع على تفاصيل حيوية عن رأس بيروت، الحيّ الذي انتقلت العائلة إليه وسكنت بيتاً من بيوته في شارع عبد العزيز. يتحدّث الصلح عن العرب والفلسطينيّين الذين حضروا في رأس بيروت منذ 1935، أي قبل النكبة، وصاروا جزءاً من المجتمع الرأس بيروتي، وعن شارع الحمرا الذي يقسم المنطقة بين رأس بيروت "فوقا" بأكثرية سُنّية تمتدّ حتى عين التينة وفردان، وأُخرى "تحتا" ذات ثقل أرثوذكسي ظلّت تعتريه هواجس من التبشير البروتستانتي في الحيّ. وإلى جانب هذا الثنائي حضر كلٌّ من: السريان، والموارنة، والدروز الذين بُنيت "الجامعة الأميركية" أو "الكلّية السورية - الإنجيلية" عام 1866 على أرض كانت مُلكاً للأمراء التلاحقة منهم.

كذلك يتحدّث الكتاب عن "مطعم فيصل" الذي أثرى الحياة الفكرية للمدينة انطلاقاً من الجامعة، وعن الفوارق والاختلافات بين "الأميركية" من جهة و"جامعة القديس يوسف" من أُخرى؛ فالثانية ومن خلفها الآباء اليسوعيون أسّسوا في الناحية الشرقية من بيروت نظرتهم الخاصّة للإدارة والدولة واللغة والحياة المختلفة عن "الستايل" البروتستاني.

راس بيروت - القسم الثقافي
رأس بيروت في خمسينيات القرن الماضي (Getty)

ويؤكّد الصلح من خلال هذا النصّ أنّ الجامعة هي ما صنع الحيّ لا العكس، وظلّ الحال كذلك حتى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975. كما يتّفق مع مقولة الصحافي المصري أحمد بهاء الدين (1927 - 1996) الذي زار الحيّ في الستينيات فوجده أشبه ما يكون بالحيّ اللاتيني في باريس، نظراً لعصريته وانفتاحه، حيث شهد صاحب السيرة ولادة عدّة أحزاب فيه، وهي: عصبة العمل القومي، والحزب السوري القومي، وحزب النداء القومي، وحركة القوميّين العرب، فضلاً عن نشاط البعثّيين القوي. ففي البناية التي كان يسكنها أنطون سعادة (مؤسّس السوري القومي) ألقى علي ناصر الدين (مؤسّس العصبة) محاضرة بعد نكبة 1948 عنوانها "الثأر"، وقد حوّلها قسطنطين زريق لاحقاً إلى كتاب.

لا شكّ في أنّ استدعاء الكتاب لمقولة "العصر الذهبي" في عنوانه يُحيل في ذهن القارئ إلى نوستالجيا متخيّلة، لكن سؤال "أين العطب؟" يبقى قائماً ومشروعاً، فالفارق بين الخمسينيات والستينيات واليوم بَيِّنٌ، وهو أكبر بكثير من ستّين أو سبعين عاماً، كما أنّ "التجريف" الذي خضعت له مدينةٌ كبيروت لم يكن داءً أُصيبت به بين ليلة وضحاها، بل متلازمة التهبت مع الحروب الأهلية المديدة، الساخنة منها والباردة، ومع تعدّيات رأس المال على الفضاء والملكيات العامّة، ومع الغيتوات الطرفية التي استبدّت بـ الضواحي وعسكرتها (فكرة الضواحي معمارياً لم تكن أصلاً مخصّصة للطبقات الفقيرة)، ومع الاستقواءات الطائفية التي امتصّت دماء محكوميها أربعين عاماً ثم انهارت في عشرة أيام.
 

المساهمون