اللافت أن تبدأ الحرب الباردة بتشابهٍ غريبٍ في سلوك القوّتين الكبيرتين اللتين برزتا بعد نهاية الحرب العالمية الثانية الساخنة: الولايات المتّحدة الأميركية، والاتحاد السوفييتي، وباتفاق، يكاد يكون مُعدّاً سلفاً، على ضرورة أن تهيمن كلّ دولةٍ منهما، في جغرافيّتها أو في جغرافية العالم إذا استطاعت، على عقول الناس، بعد أن تأكّد كلا النظامين من أهمية الثقافة في تغيير السلوك البشري.
كانت "منظّمة حرية الثقافة"، التي أسّستها وأدارتها وكالة المخابرات المركزية الأميركية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، قد عرّفت الحرب الباردة بأنّها "معركة من أجل الاستيلاء على عقول البشر"، وقد حظيت كل دولة منهما برقيب دموي متشدّد، ارتبطَ اسمه بتاريخ القمع الفكري في النصف الثاني من القرن العشرين. ففي الولايات المتّحدة ظهرت المكارثية التي نُسبت إلى السناتور جوزيف مكارثي، وفي الاتحاد السوفييتي ظهرت الجدانوفية التي نُسبت إلى السياسي أندريه جدانوف.
من الذي كانت تستهدفه الجدانوفية والمكارثية في قراراتهما وعملياتهما ومطالبهما، الكاتب، أم القارئ؟ من حيث الظاهر حوكم الكتّابُ وسُجنوا وطُرد عددٌ منهم إلى خارج البلاد في كلٍّ من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وعبّر كلا النظامين عن ضيقه من القول، وأراد تدجين الكتّاب ووضعهم تحت الوصاية، مرّة باسم الالتزام، ومرّة باسم الدفاع عن الحرية.
تضمن مصادرة الكتابة ضبطَ المنتج وعدم تلويث رأس القرّاء
أعتقدُ أنَّ الأمر كان عملية احتيال كبرى تتخفّى وراء الحاجات الإنسانية التي تطلب من الكاتب الالتزام بخدمة المجتمع، وتقدّم له طُعماً أخلاقياً لا يستطيع معظم الكتّاب رفضه، إلّا في الحدود التي يتحوّل فيها إلى قيد، بسبب طبيعة الكتابة نفسها التي تعتبر الإنسان، والدفاع عن الحرية، وجهتها.
كلا النظامين، وقد سارت على نهجهما عشرات الأنظمة في البلدان الصغيرة والكبيرة في العالم، كان يؤمن أنّ الجمهور هو الذي يمثّل خطراً خفيّاً، أو استعداداً للتمرّد إذا ما قُدّمت له أفكار مختلفة عن فكر السلطة. فعن طريق مصادرة الكتابة، أو توجيهها، أو دعوة أصحابها إلى التقيّد بالقاعدة الأخلاقية والفكرية والسياسية أيضاً التي يعمّمها النظام السياسي، الاشتراكي هناك، والرأسمالي هنا، أو هناك، يتمُّ ضبطُ المنتج، وضمان عدم تلويث رأس القرّاء بأي فكرة لا تتناسب مع نظام الحكم، أو تنافس السلطة للاستيلاء على العقل العام.
لم تكن تشغل السياسيّين في البلدين المبادئ، بل فكرة السيطرة من خلال المبادئ على مجتمعاتهم، وما دمنا نتحدث عن الكتابة، فكل كتابة مصيرها في الوجه الآخر هو القراءة، والمعني بالقصد هو القارئ، أي تلك الشريحة من المجتمع التي عليها أن تقرأ ما تُجيزه الإدارة التي تسعى للاستيلاء على العقول، وعليها أن تغيّر سلوكها وفق الثقافة التي يُصدرها مركز السيطرة في كلٍّ من النظامين.
اللافت هو أن كلتا المؤسستين كانت ترغب في الكتابة، ولا تريد الصمت أو الفراغ الفكري، ويوضح كتاب "الحرب الباردة الثقافية"، لـ فرنسيس ستونر سوندرز، هذا بالأرقام والأسماء، إذ إنّ مؤسّسات المراقبة تعلمُ أنَّ أيّ فراغ أو أيّ صمت سوف يبحث لنفسه عن ملاذ، أو ملء، يتولّى أمره الكتّاب الذين قد لا ترغب بهم.
* روائي من سورية