تجربة في ترجمة المُعلَّقات (2/1): خيارات متوازنة بين توطين النص وتغريبه

16 أكتوبر 2023
حروفية من شعر عنترة، للفنان الليبي علي عمر أرميص
+ الخط -

من المعروف أن أبرز التحدّيات في ترجمة الشعر عامةً، وترجمة الشعر الكلاسيكي خاصةً، تتمثّل في كيفية المُوازنة بين الشكل والمضمون عند نقلهما إلى اللغة الهدف. وأعني بالشكل إيقاعَ النص الشعري بكل أنواعه من الأدوات التي تُضفي الموسيقى عليه. أما بالمضمون فأعني كلّ ما يتضمّنه النص الشعري من معانٍ على المستويين المحلّي والعالمي.

وباعتباري مُترجِم المعلَّقات السّبع إلى اللغة التركية تحت عنوان Yedi Askı Şiirleri" (Muallakalar)"، أتحدّث في هذا المقال عن تجربتي في نقل هذا العمل إلى اللغة التركية شِعرًا وليس نثرًا، كما هو الحال في ترجمة الشعر الكلاسيكي بين اللغتين العربية والتركية. وأُناقش كيف حاولتُ التوصّل إلى معادلة نقل المضمون كاملًا قدر المستطاع، دون غضّ الطرف عن الجوانب الإيقاعية للنصّ الشعري، ليتمّ في نهاية المطاف تَلَقِّيهِ شِعرًا في بيئته الجديدة من قبل قرّاء اللغة الهدف. ولهذا الغرض سأقدّم مثالًا عمليًّا من الترجمة تُساند ما أتوصّل إليه من أفكار، في ما يخصّ نقل الشكل/ الإيقاع أيضًا في ترجمة الشعر.


خصائص نصية وصعوبات في الترجمة

تُعتبر المعلّقات السبع من النصوص المؤسِّسة للأدب العربي بصورة عامة، والشعر العربي بصورة خاصة، فهي ليست "مُدوَّنة" لا غنى عنها في الشعر العربي والدراسات اللغوية فحسب، بل هي مصدر مهمّ بالنسبة للدراسات الإسلامية أيضًا، الأمر الذي أدّى إلى كونها "مُعلّقة" بالذهن العربي من عصر ما قبل الإسلام إلى يومنا هذا. وهي عبارة عن سبع قصائد طويلة، أقصرها مكوّن من أربعة وستين بيتًا وأطولها من مئة وأربعة أبيات، أي بمعدّل خمسة وثمانين بيتًا من الطول.

المعلّقة بوحداتها المُجزَّأة أشبه ما تكون بالسيمفونية

ثمة روايات مختلفة حول عدد المعلّقات حيث يتّفق العديد من الرُّواة على أن عددها سبعة. هذا العدد بحدّ ذاته له دلالات رمزية في الثقافة العربية ما قبل الإسلام وما بعده، فالسماوات والأرض سبع طبقات، كما أن هناك سبعة كواكب في المصادر القديمة، وفي الموسيقى سبعة مقامات، إلى آخره. على الرغم من شيوع التسمية بـ"السبع" إلّا أن عدد المُعلّقات يصل إلى عشرة في بعض الروايات.

يبدو أن ترتيب المُعلّقات لا يستند إلى معايير مُحدّدة كما وردت في شروحها، إذ لم أجد أية معلومة عن المنطق في ترتيب الشعراء في هذه الشروح. هذه إشكالية تُواجه المترجم: هل سيجرى ترتيبها حسب ميلاد أم رحيل الشعراء الذين لا نملك معلومات دقيقة حولهم، أم حسب الترتيب الزمني لوقوع أحداث المعلّقات وفقًا للمعلومات المتوفّرة لدينا حول أيام العرب وغيرها من المضامين في هذه النصوص، أم هناك طريقة أُخرى؟

تتميّز هذه النصوص، إلى جانب كونها مصدرًا لغويًا، بكونها مصدرًا معرفيًّا للتاريخ العربي والثقافة العربية أيضاً، شعريًّا وإدراكيًّا واجتماعيًّا ونفسيًّا وفلكلوريًّا، بالإضافة إلى كونها مصدرًا لمعرفة النّبات والحيوانات في الجغرافيا العربية قبل الإسلام. 

هذه النصوص، بنيويًّا، أشبه بالسيمفونية الكلاسيكية، حيث تبدو كلّ مُعلّقة من المعلّقات "وحدة مُجزَّأة" تنتقل بين ثيمات متنوّعة، من طلَليّة ورحيل ووصف ومديح وما إلى ذلك. بالضبط، كما هو الحال بالنسبة للسيمفونية الكلاسيكية التي يجرى فيها الانتقال بصورة مُتواصلة إلى حركات موسيقية سريعة وأُخرى بطيئة، حسب الجوّ الموسيقي والشعور المعني. كما يلاحظ في الشكل التالي:

لمادة حقي صوتشين - القسم الثقافي

بالإضافة إلى هذه الخاصية البنيوية، هناك مسافة تاريخية كبيرة بين العصر الذي أُبدعت فيه هذه النصوص والعصر الذي يعاد فيه إبداعها في اللغة الهدف. فاللغة قديمة، قد نجد مفردات وعبارات لم تعد في التداول حاليًّا، لا نفهمها إلا بمساعدة الشروح على المعلّقات. والحياة الثقافية والاجتماعية أيضًا مختلفة عمّا هي عليه الآن حتى في الجغرافيا العربية، فما بالك في حال إعادة إبداعه في لغة جديدة؟ على المترجم أن يأخذ هذه الخصائص بعين الاعتبار قبل مباشرة الترجمة.


ترجمة المعلَّقات إلى اللغة التركية

على الرغم من أن المعلّقات السبع لم تُترجَم كاملة إلى اللغة التركية في الفترة العثمانية، إلّا أننا نجد ترجمات مُتناثرة لبعض المعلّقات في العهد العثماني. أمّا الترجمة الكاملة للمعلّقات السبع فقد أنجزت في عام 1943، أي بعد عشرين سنة من تأسيس جمهورية تركيا، ترجمةً نثريةً تفسيريةً، نشرتْها وزارة التربية الوطنية التركية بترجمة محمد شرف الدين يالْتْكايا، ثاني رئيس للشؤون الدينية في تركيا، وذلك ضمن سلسلة "الكلاسيكيات الشرقية - الإسلامية" التي دشّنها المثقّف التركي المعروف وزير الثقافة في تلك الفترة حَسَن علي يوجيل. وقد طُبعت ثانية عام 1989 في عشرين ألف نسخة. بعد ذلك، توقّفت الوزارة المذكورة عن إعادة نشر الترجمة.

ترتيب المُعلّقات من الإشكاليات الأولى التي تواجه المترجم

ثمة ترجمة نثرية تفسيرية أُخرى صدرت عام 2004 من قبل ثلاثة أساتذة جامعيّين وهم: نور الدين جويز، وكنعان دميراياك، ونوزاد حافظ يانيك، وهي ترجمة شبيهة بترجمة يالتكايا المذكورة من ناحية كونها ترجمة نثرية تفسيرية، مع "تتريك" الكلمات العثمانية التي لا يفهمها الجيل الجديد في الترجمة السابقة، كما يصرّح به المترجمون في مقدمة ترجمتهم. وقد صدرت أربع طبعات من هذه الترجمة إلى الآن.

كما أن هناك محاولتين من كاتبَيْن ليسا مُترجِمَيْن أصلًا، لنَقْل النص النثري المُترجَم من قبل محمد شرف الدين يالتكايا إلى نص شعري، لكنهما لا تُعتبران "ترجمة" بالمعنى الحقيقي، بل إعادة بناء نصّ جديد لا يعتمد على أي نص مَصْدر. العمل الأول للكاتب عصمت زكي أيوب أوغلو نُشر عام 1985، والثاني للكاتب صادق يالسيز أوتشانلار نُشر عام 1998، لم تُعَدْ طباعتهما من جديد.

أما ترجمتي للمعلّقات فقد صدرت عام 2020، وهي أول ترجمة شعرية للمعلَّقات السبع في اللغة التركية، ويتضمّن الكتاب معلّقة كلّ من امرئ القيس، وطرفة بن العبد، وعنترة بن شدّاد، وزهير بن أبي سُلمى، ولبيد بن ربيعة، وعمرو بن كلثوم، والحارث بن حلّزة اليشكري. ويأتي في مطلع هذه الترجمة تقديم للشاعر أدونيس تحت عنوان "قراءة الشعر الجاهلي"، مع تقديم آخر للمُترجِم. ومن المتوقّع أن تصدر الطبعة الثانية لهذه الترجمة لتُضاف ترجمة معلَّقات كلّ من: الأعشى، والنابغة الذّبياني، وعبيد بن الأبرص، لتنجز بذلك ترجمة المعلّقات العشر كاملة ترجمةً شعريةً في اللغة التركية، علمًا أن المعلّقات الثلاث ستكون قد تُرجمت للمرّة الأُولى إلى اللغة التركية.

المعلقات السبع - القسم الثقافي

لقد استفدتُ في الترجمة بالمقام الأول من "شرح المعلّقات السبع" للزوزني، ومن شروح أُخرى على رأسها "شرح القصائد السبع الطوال الجاهليات" للأنباري، و"شرح القصائد التسع المشهورات" للنحّاس، و"شرح المعلّقات التسع" للشيباني، وغيرها من الشروح في حال وجود قراءات مختلفة لمعاني الكلمات أو تفسير الأبيات الشعرية. واعتمدتُ في نهاية المطاف على المعنى الأكثر ملائمة حسب السياق والذوق الشعري.

أُنجِزت الترجمة النثرية الأولى إلى التركية عام 1943

يختلف ترتيب الشعراء ومعلّقاتهم من شرح إلى آخر كما سبق ذكره. وحسب دراستي، لم أجد أي معلومات حول المعايير التي هيمنت على ترتيب الشُرَّاح للمعلّقات. يبدو أن الأنباري وحدَه هو الذي رتّب المعلّقات حسب التواريخ المُحتملة لرحيل شعرائها. ولقد رتّبتُ في ترجمتي نصوصَ المعلّقات حسب سَير الأحداث التاريخية لها، في نطاق معرفتنا بأيام العرب والخلافات بين الشعراء وقبائلهم وغيرها من العوامل. على سبيل المثال، في حين تأتي معلّقة عنترة بن شدّاد في الترتيب الخامس أو السادس في معظم شروح المعلّقات، فإني وضعتُها في الترتيب الثالث، آخذًا بعين الاعتبار سَير الأحداث التي تتضمّنها هذه النصوص، الأمر الذي يجعل القارئ يُساير الوقائع بحسب حدوثها.

وحاولتُ أثناء الترجمة الامتثال لنظام الأبيات في اللغة التركية ليبدو النصّ قديمًّا شكلًا، كما كنتُ حريصًا على عدم الابتعاد عن معنى النص المصدر مع عدم تجاهل جماليات الأسلوب الشعري في اللغة التركية، حيث حاولتُ أن أؤسّس الإيقاع الشعري للنص والحفاظ عليه بطريقة طبيعية تلقائية، بدلًا من التمسُّك الأعمى بالشكل الشعري في اللغة المصدر. وحاولت اتخاذ خيارات متوازنة على مستوى توطين النص مقابل تغريبه (Domestication vs Foreignization) حيث فضّلتُ الحفاظ على خيارات تعكس الثقافة أو الفلكلور أو أي سمة مميّزة للنص المصدر، لكن أثناء القيام بذلك، كنت حريصًا على عدم الابتعاد عن الخطاب الشعري والمقروئية والانسيابية للنص الهدف في اللغة التركية.

كما حاولتُ أن أجعل عمل القارئ أسهل، من خلال ترك مسافات عند انتقال الشاعر في المعلّقات من ثيمة إلى أُخرى كما ذكرنا أعلاه، عند مقارنتها بالانتقال بين مقاطع السيمفونية، لكنني على كل حال لم أبالغ في ذلك كي يكتشف القارئ بنفسه هذه الانتقالات. وقد جرى تصميم صفحات الكتاب نصوصًا متوازية باللغتين التركية والعربية، وجهًا لوجه، لمن يرغب متابعة النّصين العربي والتركي معاً في وقت واحد.


* أكاديمي ومترجم تركي، أستاذ اللغة العربية في "جامعة غازي" في أنقرة

المساهمون