من البرونز، نفّذ عبد القادري عملاً نحتياً بعنوان "يد الأُم"، وهو عبارة عن كفّ تُمسك بأصابعها مقصّاً، وآخر بعنوان "قدم الأُم"، يشكّلان، إلى جانب رسومات أُخرى، شاهداً على حياة أُسرية عاشها متشابكة مع الحرب الأهلية في بلاده، والتي استمّرت خمس عشرة سنة.
بالعودة إلى ألبوم صور العائلة، يُعيد الفنّان اللبناني قراءة تاريخه الشخصي؛ حيث المعارك في شوارع بيروت والأبُ المستبدّ في المنزل، كما يقدّمها في معرضه "تحت ماكينة الخياطة" الذي افتُتح في "غاليري تانيت" بمدينة ميونخ الألمانية في السابع عشر من أيّار/ مايو الماضي، ويتواصل حتى الرابع والعشرين من الشهر الجاري.
ذهاب إلى مساحات شخصية فيها نوع من المصارحة والمصالحة
يستمدّ المعرض عنوانه من تلك الساعات التي كان يقضيها القادري، في طفولته، عند قدمَي والدته، التي كانت تعمل على آلة خياطة، ومعه أدوات الطفولة من أقلام تلوين وأقلام رصاص وورق حياكة؛ أدواتٌ استرجعها بكلّ ما فيها من ألم وحنين إلى صورة رومانسية لم تغب من ذاكرته.
يُعيد القادري ترتيب الأحداث لتُصبح الأُم ّبؤرتها المركزية؛ المرأة التي تحدَّت بجرأة المعايير الأبوية لمجتمعها المحافظ وعائلتها المكوّنة من تسعة أشقّاء، حيث لم تقاتل فقط لحماية الأسرة، بل حقّقت استقلالها المالي عن زوج مُسيطِر كان يبلغ من العمر خمسة وخمسين عاماً عندما وُلد ابنُه الذي سيصبح فنّاناً.
في 2015، عاد القادري إلى بيروت بعد غياب تسع سنوات، وانطلق يبحث عن جذور الخلاف بين والده وعمّه حول بيت جدّه، والذي تسبّب بقطيعة بينهما استمرّت حتى رحيلهما. وحين زار البيت المهجور الذي شُيّد في الثلاثينيات، اكتشف شجرة كاوتشوك كبيرة تُغطّيه بالكامل، ليستشعر لحظتها تلك العلاقة القوية التي ربطته بالشجرة بوصفها شاهداً على البيت والأحداث والقصص التي عاشها أفراده، ثم تعرّف لاحقاً إلى بيوت مماثلة في العاصمة اللبنانية، هُجرت بسبب خلافات عائلية أو بسبب الحرب الأهلية، تحتوي الشجرة ذاتها. لكنه قدّم قصة ثانية عن بيت آخر في معرضه "قصة شجرة الكاوتشوك" الذي احتضنه "متحف سرسق" سنة 2018.
يقول في حديث إلى "العربي الجديد": "منذ ثلاث سنوات تقريباً، بدأتُ البحث في قصّتي الشخصية، وقصّة البيت، وعلاقتي بأبي وعلاقة أبي بأمّي وأشقائي، ووجدتُ الوقتَ مناسباً لنقله في عملي الذي يذهب إلى مساحات شخصية وحميمية فيها نوع من المصارحة والمصالحة أيضاً، وفيها كثير من العناء النفسي؛ حيث استنزفتُ طاقة وجهداً في محاولة لتقديم الأبعاد النفسية والعاطفية التي كوّنتني وشكّلت شخصيّتي".
يشير القادري إلى أنّ التقنيات والمعالجات التي يستخدمها في معرضه الحالي تتنوّع وتختلف بحسب النصّ أو القصّة التي يريد إيصاله/ا، مع وجود إخلاص دائم لمنطق اللوحة والرسم الذي يبرز تعامُله مع الخطوط والألوان بأريحية تعني له الكثير على المستوى الفردي والفنّي، كما تُمثّل مساحةً رحبة للتعبير، بالإضافة إلى فيلم وصور فوتوغرافية وأعمال حفر ونحت، مُضيفاً: "أهم ما يميّز المعرض هو تكرار صورة واحدة؛ الصورة التي خلقت فارقاً أساسياً فيه".
تعكس هذه الصورة شكلاً من أشكال التلصُّص على ذكريات قديمة، التي يصفها القادري بأنها تذكرة سفر عبر الزمن، وتختزل الكثير من المعاني السياسية والاجتماعية والعائلية والشخصية، وتقارب مفاهيم النسوية والذكورية. صورة توضّح شخصية الأب الشرطي العنيف الذي يمثّل القانون ولديه حضور طاغٍ ومتسلّط مع بقية أفراد العائلة. وفيها ينظر القادري الطفل إلى الاتجاه المعاكس للكاميرا، ليتفاعل معها بعد زمن طويل ويبني عليها أكثر من تسعة أعمال أُخرى يحتويها المعرض، في محاولة لسرد وقائع عاشها حتى بلوغه سنّ الثامنة، حيث استخدم أقلام الرصاص والخشب التي كان يستخدمها في تلك المرحلة، حين لم تكن لديه إمكانية لاستخدام الزيت أو الإكريليك، وحتى الحفر يمكن للطفل أن يجرّبه لما يحتويه من عفوية.
وينبّه الفنان إلى أنه، وعلى الرغم من فردانية التصوّر الذي يطرحه المعرض، إلّا أنه لا ينفصل عن السياق الاجتماعي والسياسي الذي تختزله صورةٌ لوالده في زيّه العسكري خلال فترة الخمسينيات بعد استقلال لبنان. هناك أيضاً فيديو تتحدّث فيه والدته عن الحرب الأهلية والقصف أثناءها، وهناك أيضاً تراكمات سبّبتها الظروف السياسية والاجتماعية وتأثّر بها والده في سلوكه الذكوري، ليكتمل المشهد الذي يتمثّله المعرض بين حربين: المعارك السياسية في الشوارع والأب المستبدّ في المنزل، وكلاهما كان مدمّراً على مستويات متعدّدة.
يستند إلى صورة تعكس شكلاً من التلصّص على ذكريات قديمة
مع ذلك، يرى القادري أنّه ليس ضرورياً أن يتخذ الفنّان موقفاً ويتحرّك كناشط سياسي، أو يسعى لتوثيق الواقع بعدسته، لكنّه يضيف أنّ الفنان يمكنه أن يترجم أحاسيسه وواقعه بالطريقة التي يراها مناسبة، مستشهداً بمشروعه الذي نفّذه إثر انفجار ميناء بيروت عام 2020 بعنوان "أودُّ اليوم أن أكون شجرة"، والذي يقول إنّه كان بعيداً عن أيّ بُعد سياسي، وإنّه كان ردّة فعل على الدمار.
يتكوّن المعرض من قرابة ثلاثة عشر رسماً، وأتى استخدام المواد بما يتناسب مع طبيعة كلّ حدث من الأحداث التي تشكّل القصّة الشخصية. وإلى جانب ذلك، ثمّة الفيديو الذي يصوّر الوالدة التي لا تزال تعمل بالحياكة وتذهب إلى مشغلها يومياً، إضافةً إلى عشرة أعمال حفرٍ على مادة الزنك وعملين نحتيين بالبرونز يمثّلان تحية لوالدة الفنّان التي أبقته جنيناً بعد محاولات عديدة من الوالد للإجهاض، ويُظهران كيف تطوّرت علاقتها به، والتي ربّما تحمل نوعاً من الإحساس بالذنب تجاه طفلٍ "غير مرغوب فيه"، ما جعلها تُبقيه معها بشكل دائم؛ حيث تحوّل الخوف والصدمة التي عاشها الاثنان إلى قصّة يسردها اليوم عبد الفنّان بصرياً.
يُذكر أن عبد القادري فنّان لبناني وُلد عام 1984، وقدّم مجموعة من المشاريع الفنّية في معارضه: "رماد البحر"، و"المقامة 14"، و"أركاديا"، و"17 تشرين الأول 2019: يوميات الثورة اللبنانية"، و"رفات آخر وردة حمراء على وجه الأرض" وغيرها.