تحدّيات عمل اسمه الكتابة

05 أكتوبر 2024
مجد كردية، زيت على قماش 2021
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يتناول النص التحديات التي تواجه الكتابة كعمل وهواية، مشيرًا إلى الصراع بين الالتزام المهني والشغف الشخصي، والتوتر بين التوقعات الاجتماعية والحرية الإبداعية.
- يسلط الضوء على النظرة الاجتماعية للكتابة كعمل غير جاد، وقلة الاعتراف بالحقوق المالية والأدبية للكتّاب في العالم العربي، مما يدفعهم للاستمرار في الكتابة رغم التحديات.
- يعبر الكاتب عن تجربته الشخصية مع الكتابة كتجربة تجريبية مستمرة، تتطلب مواجهة تحديات التطور التكنولوجي والذكاء الاصطناعي، مؤكدًا على البحث الدائم عن الحرية الإبداعية.

أن يجرح السقف رؤوسنا وينفر من حناجرنا ماء أجاج بمجرّد الشروع في الكتابة، سواء قاربناها كعمل أو شُغفنا بها كهواية، أو اقترفناها كتوأم روحي متعالق تعالُق الوحي بالنبوّة والشوك بالحرير والقهوة برائحتها.

أن ينحرف موضوع الكتابة عن العنوان عمداً أو تمرّداً بما لا يشي فقط بتحدّي التباعد بين العنوان والموضوع، بل بالتشظّي المتعدّد الذي تفرضه الكتابة كعمل بين فكرة الكتابة وأخيلتها، وبين النصّ المكتوب في مآله النهائي كنسخة أخيرة من مسوّدات لامتناهية.

أمّا حين أفشل كلحظتي الراهنة في التستّر على توتّري مع ما قد يبدو تعارُضاً متوجّساً أو ماثلاً بين ما أحمله من توق شخصي وتجربة خاصّة في التعامل مع الكتابة كعمل وبين علاقتي السرّية بماء الحبر كهواية وكغواية، فإنّ تحدّي الكتابة يتحوّل من حالة حالمة وغامضة بين الكتابة وبين الذات الكاتبة كشفاء وإلهام وإخلاص وتورّط في مشتهى العدل والجمال الشرّير والبريء معاً، إلى حالة شائكة من الأسئلة الملتبسة والصارمة التي لبعضها سمة مكيافيلية سياسية ماكرة مثل: كيف أفلتُ من تربيتي الرقابية ومن توقّع القرّاء ولو كان قارئاً واحداً متوهّماً ومن وقار المطبوعة التي أُطلّ منها لإعطاء نفسي حرية اختيار كتابة بنكهة مشكِّكة في المستتب بما فيه مستتبّ الكتابة وخوارقها المفترضة، وفي مساءلة القدرة على امتلاك ناصيتها أنّا بلغت ملكاتنا وارتفعت سماوات الحريات المنشودة لتماديها؟! 

يمضي الكُتّاب في الكتابة وكأنّهم يلعبون ولا يعملون

كيف لكتابة عابرة أن تتجرّأ على سلسلة من خيانات المعتاد، بما فيها معتاد الكتابة نفسها في مكابراتها المتعدّدة، ومنها عدم اعترافها بحيرتها وتحدّياتها وأسئلتها وقلقها المعرفي في سبيل أن تبدو بمظهر العارف كشرط اجتماعي لا لزوم له لعملٍ اسمه الكتابة.

ألا يحفل الحبر ولا لوح المفاتيح أو الأقدار من قريب ولا من بعيد بالحديث عن التنكّر الاجتماعي للكتابة كعملٍ، ولا يُعنى بالعتب على الغفلة المتعمّدة في عدم النظر للكتابة باعتبارها هواية خطرة، ولا يعبأ بما ترتّب عليهما: التنكّر والغفلة مع الأسف من سياسات تفريط عربي عام في الحقوق المالية والأدبية للكتابة أو تحجيم تلك الحقوق للحدّ الأدنى إلّا نادراً، فيمضي الكُتّاب في الكتابة وكأنّهم يلعبون ولا يعملون، وإن كان هذا بحدّ ذاته أجمل جزاء.

ومع أنّ الكتابة في رأي مجرّبي جراحها وفي روع المنتمين إليها هي السهل الممتنع الأشدّ تعقيداً من بين أنواع العمل، فإنّ التحدّي ألّا يروم القلم الإشادة ولا التشكّي ولا حتى الإشارة إلى الكتابة كعمل خلّاق، بل أن يُوغل في معتزل عروش الإخلاص لها والمثابرة عليها والقراءة المعمّقة لأجلها، وحيداً بصبر أو جزع جميل بما يقتضيه العمل في حقل ألغامها من تبتّل واستغراق ومن إسراف في تبديد الوقت عليها، وكأنّ العمر البشري ألف عام.

ليس في مضمر هذا المقال ولا في علانيته في الكتابة عن تحدّي الكتابة لا إبداء تعاطف ولا عداوة ولا حتى حياد تجاه من فقدوا عملهم في الكتابة طوعاً أو كرهاً، يأساً أو ابتلاءَ، انسحاباً أو سأماً. وبالمثل، فإنّه ليس رثاءً لحال الكُتّاب الذين فقدوا مع فقد عملهم في الكتابة، نتيجة تهاوي معظم الصحف والمجلّات الورقية في عالمنا العربي، أرواحهم المعلّقة بها دون أن يفكّر أحد في مصائرهم الإنسانية، وكأنّ الأمر امتدادٌ لتلك النظرة "الرومانسية القاسية" التي لا ترى الكتابة عملاً، بل لا تفرّق بين شرط متضادّات الكتابة كعمل وكهواية.

تجريبٌ لا شفاء له على مشارف غروب العمر

الغريب أنّني حين استولت على تلابيبي فكرة الكتابة عن تحدّيات عمل اسمه الكتابة، كنتُ أحسب أنّني لا شعورياً سأكتب عن الحرقة التي نعاني منها جميعاً من تلك الكتابة الضامرة الصامتة القليلة الرثّة أمام الكارثة الفارهة الصاخبة النضرة والكبيرة التي نعيشها يومياً ويعيشها العالم قاطبةً على أرض غزّة كرمز لأزمة ضمير فردي وجمعي، وليس فقط كتحدّ للكلمة النزيهة والموقف الشجاع على الأرض.

كنتُ أخال أيضاً أنّه لا بدّ في نفس سياق الأسئلة من الوقوف بالتحوّلات المثيرة التي خلقها الذكاء الاصطناعي وعموم التكنولوجيا وتعدّد أوعيتها ووظائفها وتحديثاتها الحثيثة لفرز التحدّيات الجديدة التي يواجهها عمل اسمه الكتابة ولمقامرة اسمها هواية الكتابة ولم تحل بعد معضلات تحدّياتنا القديمة والقائمة.

غير أنّي، ويا للمحدودية، وجدتُ طوال أيام من محاولة الكتابة عن تحدّي الكتابة كعمل وجروحها كهواية أن التحدّي الوحيد الذي ظلّ يُلحّ على روحي وأنا أتقلّب في ضياع مبرح بين تحدّيات الحبر والبحر والجمر هو تحدّي الرفض لقبول مواقع اجتماعية تحاول أن تنزع عن الكتابة شرف مسؤوليتها العمرانية كعمل، وتتدخّل في حريتها التحرّرية كهواية متهوّرة.

وهذا ما يتطلّب منّي اقتراح أن تتخيّلوا عنواناً آخر لهذا المقال غير العنوان المضلّل أو المخلّ أعلاه.

ففي واقع الأمر، لم يكن ما كتبتُه هنا مقالاً بالمعنى الموضوعي ولا بالحدّ الأدنى من الشكل المتعارف عليه للمقال، ولكنّه كتابة مبعثرة لا تصنيف لها إلّا بالمعنى المجازي المجازف الذي نخترعه أحياناً لتجريب الأجنحة ليس إلّا.

كما أن ما كتبته هنا، وهذا الأنكى، بعد عقود من الكتابة الجادّة والمجنونة معاً، لم يكن كتابة عن عمل اسمه الكتابة، كما لم يكن كتابة عن هواية ليس لها اسم إلّا مخاطرة الفراشة في مهبّ الحرائق، بل كان شتاتاً من الجروح المبرحة التي جنتها الأجنحة من تجريب الكتابة بما لا شفاء له على مشارف غروب العمر إلّا المضيّ في تجريب الكتابة للرمق الأخير. 


* شاعرة وكاتبة وأكاديمية من السعودية

المساهمون