تمتزج الكتابة لدى لوران غاسبار (1925 ــ 2019) بالحياة بالمعنى البيولوجي، كما يشبّه انبثاق النص بانبثاق الحياة. والنص، أو الكتابة تختلف لديه عن الأدب. فنحن نعيش منذ عقود لحظة خبوّ الأدب، وحلول مفهوم الكتابة محلّه. الكتابة التي تتغاير بشكل مطلق مع الأدب، وذلك من يوم بدأ تطهيرُ الإسطبل الأدبي، كما يقول السرياليون.
في هذا السياق أيضاً، يكتب الشاعر كريستيان بوبان: لا يجب أبداً أن تمارس الأدب، عليك أن تكتب، وهو ليس الأمر نفسه. هذا الانتقال من الأدب إلى الكتابة اختزلَهُ الكاتب والناقد جان ريكاردو، منذ الستينيات، عندما كتب: انتقلت الرواية من الكتابة عن المغامرة إلى مغامرة الكتابة.
هنا نموذجٌ من مغامرة لوران غاسبار الكتابية التي بدأها مبكّراً. هي نصوص مفتوحة دأب على نشرها في كتبه: "أوراق سريرية"، "يوميات باثموس"، "دفاتر القدس"، وأيضاً كتاباته عن صحراء العرب...
ظلّ لوران يكتب حتى أيامه الأخيرة، رغم سقوطه في هوّة الزهايمر، كما لو أن للذاكرة مسالكها السرّية... أتذكّرُ، في آخر زيارة له، الغرفة المشمسة ومشهد قصاصات الأوراق الصفراء المبثوثة، بل المبعثرة في كل مكان فوق الطاولة وعلى حافة النافذة وفوق رف الكتب. أوراق مليئة بكتابات: شذرات وجُمَل كان يخطّها في وحدته تلك. لم أجرؤ، لأسباب أخلاقية، على قراءتها...
هنا مقتطفٌ من كرّاس "تخطيطات تونسية"، وهي نصوص مفتوحة، نصوص مزيج من شعر وتأمّلات، ويومياته في سيدي بو سعيد. مقتطفٌ من نسخة مصحّحة من كرّاس يقع في ثلاثة آلاف كلمة، أرسله لي لوران غاسبار سنة 2009 لنشره في "دار التوباد" بذاك التاريخ. كما سبق ونشر لوران جزءاً من هذا الكرّاس في مجلّة NRF التي تُصدرها دار "غاليمار" الفرنسية.
كلّ الناس تعرف هذا الرجل المجدليني الذي يجول مثل الخيال في أزقّة سيدي بو سعيد وفي البساتين المحيطة بالقرية وفي منحدرات الشاطئ الذي غزته أشجار الصبّار. أتذكّرُ الرجل بقميصه الأبيض وصدريته السوداء وصمته ونظرته الداكنة التي تتأمل اللاشيء...
خ. ن.
■ ■ ■
1
كان الرّجل المجدليني*، كما يتذكّر، يسير فوق شاطئ شاسع ومقفر. عاودته الرّغبة في رؤية البحر مرّة أخرى، مستحضراً إعجابه القديم، وسعادته القصوى حينما، وهو طفل، رافق عشيرته في واحد من مواسم التقاط المحار والحصى الأسود والرمادي جميل الصّقْل، التي كانوا يقومون بها في الزمن السعيد، عندما كان في وسع الإنسان أن يتمهّل ليتمعّن، يلمس ويصغي إلى كلّ شيء وإلى كلّ حادث بانتباه متجدّد على الدّوام، تلك الأشياء النافلة التي تصادفه، ويلتقطها أحياناً: لماذا هذه الخشبة، أو تلك الحصاة وليس غيرها؟ وهي تحتل حيّزاً غامضاً في حياته، ويستطيع أن يخاطبها أو يُسائل نفسه عبرها. أيّ رابط سريّ ذاك الذي جعله يصطفيها من بين أشياء أخرى كثيرة. أيّة دلالة لذاك الفرح شديد الصفاء الذي يستشعر وهو يتأمّلها، يلمسها يرصفها مع بعضها، وقد هيّأ ركناً في مغارته لهذه الأشياء الحميمة القادرة على مساءلته، وأحياناً على تهدئته أو بعث الإحساس بالشجاعة لديه. يقيناً، يستحيل أن يتخيل بشراً آخرين، وبعد خمسة عشرة ألف سنة أن بشراً...
زمنٌ سعيد كان يتمهّل فيه الإنسان ليتمعّن ويصغي إلى كلّ شيء
كان الرجل المجدليني مباغَتاً بالحضور الطاغي لهذا العدد الكبير من الأشياء التي لا تستدعي أشكالُها ولا مادتها أي شيء في ذاكرته. مادّة بلا رائحة، وهي مَرّة صلبة وأخرى ليّنة؛ بيْدَ أن ليونتها تختلف كثيراً عن ليونة جلد الحيوان، أو بعض أجزاء النبات.
3
في البكور، تحت الأشجار المستندة إلى الجدار البحري الذي يرتفع عالياً خلال الجذوع؛ لا شيء يتحرّك في الخارج، وأنا أتأمّل وأصغي إلى هذا اللاّشيء الذي يحتوي على كلّ الحركات.
4
رجلٌ طويل، نحيل يرتدي بنطلون جينز وقميصاً نظيفاً، وفي الشتاء صدريّة صوفيّة، له وجه جميل، أسمر غير محلوق، نظرته متركزة على الداخل، لا يكفّ عن المسير. كثيراً ما أراه في الربيع قادماً من التّلال التي تحيط بالقرية، محمّلاً بالزّهور التي يغرسها على جنب الدروب، عثرتُ عليها في إحدى المرات فوق المدرج الذي ينحدر إلى مدخل البيت. طوال سنوات وأنا أصادفه، كنت ألقي عليه التحيّة ــ صباح الخير، مساء الخير ــ التي يردّها إليّ دون أن يتطلّع فيّ حقيقةً.
حدّثنا عن صحاريك، عن تجربتك، عن الذي يشدّك ويبهرك
ثمّ، وفي أحد الأيّام، إذ حيّيته وأنا أتجاوزه، لحقني وبدأ يتكلّم بحماسة وحرارة غير منتظرَين. صار نظره مركّزاً، حيّاً، وكلماته متدفقة صاخبة، ثائرة أحياناً، باحثاً عن منفذ، عن حلّ، عن وجهات لا يكاد يطرقها حتّى يتحوّل عنها، كما لو كان مأخوذاً، كما لو كان يصارع ضرورة قصوى والفكر واللغة لا يتوصّلان سريعاً إلى منحه صيغة بليغة.
ومن خلال الشذرات التي وعيتُها، بدا لي الأمر يتعلق بتجربة خيميائيّة أو عرّافة لم أنجح في تحديد عناصرها ولا قضيتها، وبدأ من ذلك اليوم، صار من وقتها يلاحقني في جولاتي، مفضياً لي، ودائماً بذات الحماسة والتركيز، نبذاً عن وجود غامض.
ــ آه للزهور على التّلة قرب البحر! ألوانها! أتأمّل كلّ هذا، وبالخصوص البنفسجي والأصفر، أحاول كنْه سرّ جرسها.
ــ الكلمات هي مع ذلك شيء آخر عندما تنجم في الهواء البارد.
ــ شجر الأوكاليبتوس معروفٌ بالنسبة إلى الضوء، أحياناً أمكث هنا تحت الأشجار وأصيخ السمع لرياح تحمل كلّ ضجيج العالم. والواحد يضمّ كلّ الآخرين. نستطيع أن نبدأ من أيّ صفحة.
ــ عيني تبصر كتاباً أصفرَ، دواة حبر، ومِقلَمة.
ــ أبحث عن الهواء المُنعش وعن الأمكنة التاريخيّة.
ــ ضوء شماريخ يحتشد بورود من ضوء.
ــ في النّار ألمح وجوهاً مضت عليها ثلاثة آلاف سنة.
5
حدّثنا عن صحاريك، عن تجربتك، عن الشيء الذي يشدّك، يبهرك ــ قالت سيّدة التلفزيون وهي تفحص موضع الميكروفون المثبت بين زرّين أعلى قميصي.
- آه، لا أدري... ذلك صعب.
* الرّجل المجدليني: نسبة إلى الثقافات المجدلية (Magdalénien)، وهي ثقافات أواخر العصر الحجري القديم الأعلى والعصر الحجري المتوسط في أوروبا الغربية.
* تقديم وترجمة: خالد النجار