القراءة تجربة، ويذهب النقّاد إلى اعتبارها كتابة أخرى للنّص المقروء. لكنّها أيضاً، أمام النصوص الكبيرة التي تصنع الذائقة، قد تكون تجربةَ تقارب العيش. وهو ما يفسّر اختلاف أصداء قراءة نصوصٍ بعينها بين عُمرٍ وآخر، إذ تختلف قراءة دوستويفسكي في العشرين عن قراءته في الأربعين. وما يصنع الاختلاف ليس السنوات التي تمرّ، وإنّما فرق التجربة التي يعيشها المرء. وهو فرق يبني مقابلاً له عند تلقّي الكلمات والأفكار.
في الحيّز الزمني بين القراءتين المفترضتين لنّص ما، يصنع الإنسان جزءاً من تجربته. ولو كان فرق التجربة بين الزمنين معياراً يمكن قياسه، لسهّل ذلك دراسة فرق التلقي وفقَ معادلةٍ جاهزة. لكن طالما المسألة مرتبطة بما يميّز أحدنا عن الآخر، فهي مستحيلة القياس، وكلّ إنسان يصنع معادلته في الوجود، أو يفهمها، بعد تفكيك علاقاته مع ما يحيط به، ومع ما كوّن شخصيته.
تقع تجربة القراءة في قلب هذه المتغيّرات، إذ تتغيّر طريقة التلقي بتغيّر المعايير التي تُفرَض على المرء أو تُنتَزَع منه. فمَن يتعرّض لحُبّ أقلّ ربّما تؤثر فيهِ روايةٌ عاطفية مثل "الحب في زمن الكوليرا" تأثيراً أكبر، وقد يكون تأثيراً مشابهاً لأعراض الكوليرا، كما أخبرنا الطبيب في الرواية. ومن البداهة أيضاً أن يكون تأثير الرواية نفسها، على شابّ في السابعة عشرة، مختلفاً عن تأثيرها على رجل في السابعة والثلاثين، لأنّ الحبّ نفسه أخذ شكلاً في وجدانه الخاصّ وضمن تجربته الشخصيّة.
تعطي روايات الحب مثالاً صرفاً عن فرق القراءة بين عُمرين
تعْرض روايات الحب فرق التلقي بوجهه الصرف، فالحُبّ أكثر ما يكشف معادن الأفراد، عبر الاستجابة له أو الإعراض عنه. ولربّما يرى الشاب الفضيلة في أن يكون المرء محبوباً، غير أنّ الإنسان الذي يخوض التجربة، يرى الفضيلة في أن يكون المرء قادراً على أن يُحِبّ ويَمنح. ورواية غابرييل غارسيا ماركيز (1927 ــ 2014) الشهيرة ليست إلّا ضرباً من ضروب الأدب الذي يجعل القارئ تحت التأثير المدوّخ للعاطفة التي دفعت بطل الرواية إلى انتظار محبوبته ما يقارب الخمسين عاماً. لكن هل انتظرها بالفعل لأنّه أحبّها؟
طالما أنّ القراءة تجربة شخصية، أتيحُ لنفسي القول: إنّني أشكّ في أنّ فلورينتينو قد أحبّ فيرمينا منذ الأساس، وأخالُ أنّ ماركيز قد أراد أن يعرض تأثير الحُبّ فينا، وأن يقرأ أثره من خلال تأجيل اللقاء بين المُحبَّيْن. فالرواية تتحدّث عن الانتظار، وعن كيف نملأ سنوات الانتظار بالحُبّ، لا عن الحُبّ نفسه، إنّما عن تأجيله الأمثل.
والفرق في قراءة الرواية بين عُمْرين أحدهما بلا تجربة والآخر بعد تجربة، هو ما يطوّر رؤية أحدنا لطبيعة الأدب من جانب، ولطبيعة الحُبّ من جانب آخر. لربما يفكّر الشاب الذي وقع تحت تأثير العاطفة بأنّ عليه أن يتزوّج الفتاة التي سلبت عافيته، ومع تعذّر ذلك يبقى رهين حُبٍّ غائبٍ طوال حياته. وسيعرف الكهلُ الحُبَّ بصورة مختلفة، وقد ارتبط بالسيدة التي أحبّها بعد وفاة زوجها، وبعد أن تقدّم جسداهما في الزمن إلى أن صارت الرغبة نوعاً من الانطفاء، بعد أن كانت اشتعالاً أودى بصحته عندما كان شاباً. والفرق بين الزمنين في الرواية، صنعَ قصّتَيْ حُبّ مختلفتين في مضمار قصة واحدة.
القراءة تجربة تنمو مع الإنسان إذاً، ولا تزدهر في سياقات منفصلة عنه، سواء أكانت سياقات معرفية أو ثقافية، وإنّما تزدهر في سياق التجربة الإنسانية ذاتها، وتجربة العيش نفسها. وما يجعل نصّاً ما كبيراً، هو قدرته على المحاكاة التلقائية لتجربة الإنسان، لا في لحظة واحدة، وإنّما عبر امتدادات العمر التي تشبه آثار عبور الزمن على الجسد.
* روائي من سورية