إجماعٌ على واجب المقاوَمة الثقافية. هذا ما ذهبت إليه أفكار كتّاب ومثقّفين عرب من مختلف الأجيال والمشارب ممّن استطلعت "العربي الجديد" آراءهم حول ما يُمكن للثقافة العربية أن تُقدّمه وما هي أدواتها لخدمة قضاياها وفي طليعتها قضية تحرير الأرض والإنسان التي تدور رحاها الآن في فلسطين معمّدة بدم أبنائها.
الثقافة ساحة من ساحات الحروب من أجل التحرير والاستقلال. فالشعوب الحرّة تتخلّص من التبعية الذهنية والثقافية قبل أن تتحرّر من الاحتلال المادّي والعسكري والاقتصادي. ولكي تستطيع الساحة الثقافية العربية دعم الشعب الفلسطيني المُحتَلّ في كفاحه المشروع من أجل استرداد حقوقه أقترح؛ أولاً: تنسيق الجهود الثقافية المقاوِمة للاحتلال، لا سيما جهود المؤسسات والكيانات المستقلّة مثل اتحادات الناشرين الوطنية والإقليمية، واتحادات الكتَّاب القُطرية والإقليمية والنقابات المِهنية ذات الصِّلة بالثقافة والإبداع مثل نقابات المهن الفنية والتمثيلية والفنانين التشكيليّين والموسيقيّين وغيرها.
وأرجو أن يكون هناك كيان مُعبّر عن هذه المؤسسات داخل القُطر الواحد، وعلى مستوى العالم العربي، وأن تنشر بيانات إدانة لجرائم الاحتلال، وتحثّ أعضاءها على المساهمة كلّ بحسب فنّه وإبداعه في مُساندة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وأرجو أن يكون هناك لجنة تنسيق عليا بين هذه المؤسسات، تُخاطِب نظيراتها في العالم للتعريف بالأُسس الأخلاقية والقانونية والشرعية لمقاومة الاحتلال، وتُفنّد الدعاوى الغربية المُضلّلة التي تسعى إلى إدانة المقاومة، وتدعم الإرهاب الدولي الذي تُمارسه "إسرائيل".
ثانياً: الدعوة إلى مشاريع فكرية وثقافية وفنّية وأكاديمية طويلة المدى تستهدف توعية العرب وغير العرب بحقيقة الصراع الذي يخوضه الشعب الفلسطيني من أجل حرّيته. يُمكن أن تشتمل هذه المشاريع على معارض فنّية لمجازر الاحتلال، وأفلام تسجيلية توثّق جرائمه، وكتابات سردية تتّخذ من قصص كفاح الفلسطينيين ومعاناتهم موضوعاً لها، وأشعاراً تقدّم صياغة جمالية للمأساة الفلسطينية، ودراسات عِلمية تحلّل خطابات التلاعُب والتضليل الغربية بشأن الاحتلال الإجرامي، وأغان تدعم المقاومة، وتخاطب الضمير الإنساني العالمي، وغيرها. ويمكن أن تقوم المؤسسات الفنية والإبداعية برعاية هذه المشاريع على مدى زمني طويل، بعد وضع خُطط لها.
على النخب أن تكون طليعة الدفاع عن قيم المجتمعات العربية ومستقبلها
ثالثاً: مقاطعة الفعاليات والأنشطة الثقافية والفكرية والفنّية التي تقدّمها جهات داعمة للاحتلال عربيّاً وغربيّاً. فللأسف الشديد على مدار العقود السابقة تحالفت بعض الدول الغربية والعربية مع دولة الاحتلال، في وضع خطط لفرض الصمت على المُبدعين، في ما يتعلّق بموقفهم من القضية الفلسطينية تحديداً. قامت هذه الخطّة على إغراء مثقّفين وفنانين وأدباء ومُبدعين عرب بالجوائز والدعوات المجانية والنشر المدفوع والمعارض والمهرجانات وغيرها؛ كي يصمتوا عن نقد الاحتلال، ويتوقّفوا عن إنتاج أعمال تكشف جرائمه، وتنتقد المتواطئين والمتحالفين معه.
واستُعمِل مَنْحُ هذه العطايا وحجبها وفق سياسة "الجزرة والعصا"، إذ تُمنح لمن ينصاعون لسياسات الجهات المانحة، ويُحرم منها من ينحازون إلى القيمة والمبدأ والأخلاق الإنسانية، مهما كانت جدارتهم باستحقاقها. ومن الضروري تشكيل رأي عام جماعي بين النُّخب المُبدعة يعي مخاطر هذه المؤسسات، وتوسيع دائرة فضحها ومقاطعتها، لا سيما ما تنظّمه وتشرف عليه دول عربية أقامت علاقات تطبيعية مع "إسرائيل" خلال السنوات القليلة الماضية، والتي تتّخذها "إسرائيل" غطاءً لستر أنشطتها وسياساتها وخططها للسيطرة على العقل العربي.
رابعاً: الوعي بالثقافة الاستعمارية الداعمة للاحتلال، ومواجهتها: فالأفكار العدمية، والمذاهب العبثية، والدعاوى التي تفصل الإنتاج الثقافي والفني عن قضايا المجتمع، تُستغل لعزل النخبة الثقافية والفكرية عن القضايا الأساسية لمجتمعاتهم مثل الحرية والعدالة والمساواة ومقاومة الهيمنة والاستعمار. وهذه النخب التي تشكّل عقل المجتمع، يجب أن تكون طليعة الدفاع عن قيم المجتمعات العربية ومستقبلها، وفي القلب من ذلك الدفاع عن الشعوب المحتلة، وتقديم أعمال أدبية وفنّية وفكرية تقاوم المحتلّ، وتكشف جرائمه ضدّ الإنسانية.
* باحث وأكاديمي مصري
هذه المادّة جزءٌ من ملفّ تنشره "العربي الجديد" بعنوان: "الثقافة العربية واختبار فلسطين... ما العمل؟".
لقراءة الجزء الرابع من الملفّ: اضغط هنا