في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2023، وكما هو الحال في كلّ 25 كانون الثاني/ يناير من أي عام، أذاعت جميع الراديوهات وقنوات التلفزيون ومحطّات الأثير في مقدونيا والبلقان أغانيَ للفنّان المقدوني توشه برويسكي Toše Proeski، بمناسبة عند ميلاده. كان توشه ليبلغ الثانية والأربعين من العمر في عام 2023، لكنْ، في صباح السادس عشر من تشرين الأول/ أكتوبر 2007، وبينما كان متوجّهاً إلى زغرب، في كرواتيا، أغفى المغنّي وهو جالسٌ في المقعد الأمامي بالسيارة التي كانت تقلّه، ولن يعود ليفتح عينيه مجدّداً: لقد مات في حادث مروري بعد أن اصطدمت السيارة بشاحنة كانت مركونة على الطريق السريع.
أمّا السائق الذي كان يجلس وراء المقود، وهو صديق لتوشه منذ أيام الطفولة، وكذلك مدير أعماله، الذي كان يرافقهما في تلك الرحلة، فقد تعرّضا لإصاباتٍ خفيفة. ولم تساعد الشهادتان اللتان تقدّما بهما في توضيح الظروف التي وقع فيها الحادث، فنحن لا نعرف كيف كانت الشاحنة مركونة في منتصف الطريق، كما لم يُكشَف عن هويّة سائق هذه الشاحنة. ولهذا، فإن الغموض لا يزال يكتنف حتى يومنا هذا موتَ المغنّي المقدوني.
وُلد توشه برويسكي في 25 كانون الثاني/ يناير من عام 1981 في مدينة بريليب، ونشأ في كروشيفو، أكثر مُدن البلقان ارتفاعاً عن سطح البحر. وبعد أن اكتُشفت موهبته في وقت مبكّر جدّاً، بدأ بدراسة الموسيقى الكلاسيكية، وقدّم عرضه الفني الأول وهو في سنّ الثانية عشرة، ضمن مهرجان "العندليب الذهبي" المخصّص للأطفال والذي أُقيم عام 1992، حيث أدّى أغنيةً بلغته الأم، الأرومانية (Aromanian). لكنّ مساره الموسيقي لم يبدأ رسمياً إلّا مع مهرجان "ميلفست"، حيث فاز عام 1997 عبر أدائه أغنية "أمس" لفرقة "بيتلز". بعد ذلك بعامين، أصدر ألبومه الأوّل، "في مكانٍ ما من الليل"، وفي السنة نفسها، أحيا أوّل حفل موسيقي له.
وسرعان ما عرف المغني الراحلُ الشهرةَ في عموم البلقان. إذ بعد إصدار ونجاح ألبومه الثاني، قامت شركة الإنتاج الصربية "ب. ك. ساوند" بشراء حقوق ألبومه التالي، الذي كان موجّهاً إلى كلّ جمهورية يوغسلافيا السابقة، وهو ما أفضى إلى فوزه عام 2000 بجائزة "أوسكار للشعبية"، ونفاد جميع بطاقات دخول حفلاته في عموم البلقان.
في عام 2003، حصد توشه جائزة مهرجان "بيوفيجن" بأدائه أغنية "لِمَن تنتمي؟"، التي تحوّلت إلى واحدة من أكثر أغانيه نجاحاً. وهي الأغنية التي كان سيمثّل بها صربيا ـ الجبل الأسود في مسابقة "أوروفيجن"، لكنّ هذا لم يحصل بسبب التغيّرات السياسية في البلدين والتي أدّت إلى انفصالهما وقيام دولتين مستقلّتين (صربيا، والجبل الأسود).
لكنّه، بعد ذلك بعام، سيمثّل مقدونيا في نسخة "أوروفيجن" التي أقيمت في تركيا، من خلال النسخة الإنكليزية (وعنوانها "حياة"، Life) من أغنية "أنت ملاك". ورغم أنه عاد إلى بلاده بعد أن حلّ في المركز الـ14 بالمسابقة، إلّا أنه استُقبل كما لو كان الفائز بالمركز الأول. وخلال السنوات التالية، سيُطلق الفنان أربعة ألبومات ناجحة، من بينها ألبوم "قوس قزح" الذي استعاد فيه عدداً من الأغاني الفولكلورية المقدونية.
تقول المغنية جيانا نانيني إن صوته أجمل من صوت بافاروتي
خلال الحفل الذي أقامه في "بلغراد أرينا"، في الرابع عشر من شباط/ فبراير 2007، أمام أكثر من 20 ألف متفرّج، قدّم توشه لأوّل مرّة أغنية "آريا" (Aria) في دويتو مع المغنّية الإيطالية جيانا نانّيني، التي أعلنت أمام عدد من الصحافيين الحاضرين: "لم أستطع أن أتوقّف عن البكاء عندما استمعتُ إليه لأوّل مرّة، في الاستوديو، وهو يؤدّي أغنيتي التي كنتُ قد كتبتها قبل سنوات. قلّةٌ فقط هم الذين يغنّون اليوم بهذه العاطفة. ليس توشه صاحب موهبة رائعة فحسب، بل إنه، عبر غنائه، يُشارك روح هذه البلاد مع العالم أجمع... صوته أفضل من صوت بافاروتي".
لم تكن حياة توشه مكرّسة للموسيقى فقط، بل أيضاً لمساعدة الآخرين. وباعتباره حاصلاً على "جائزة الأم تيريزا" بفضل أعماله الخيرية والإنسانية العديدة، فقد سُمّي عام 2003 سفيراً للنوايا الحسنة لدى منظّمة "يونسيف"، كما سجّل حينها أغنية بعنوان "من أجل العالم"، وهي الأغنية التي ستصبح النشيد الرسمي للمنظّمة.
وكان آخر حفل أقامه الفنان ــ في الخامس من تشرين الأول/ أكتوبر 2007 في ملعب فيليب الثاني" في العاصمة سكوبيه، أمام أكثر من 20 ألف متفرّج ــ حفلاً خيرياً جُمعت بفضله ملايين الدنانير المقدونية التي جرى التبرّع بها للمدارس الابتدائية في مقدونيا. وفي التاسع من نيسان/ إبريل 2019، قرّرت حكومة مقدونيا تكريم المغنّي الراحل عبر إعادة تسمية الملعب الرياضي "ملعب توشه برويسكي الوطني".
ورغم أن حياة توشه برويسكي لم تطل أكثر من 26 عاماً، إلّا أنه ترك وراءه 22 ألبوماً والكثير من الإنجازات، حيث يُحتفى اليوم بإرثه كما يُحتفى بالقدّيسين. وفي كلّ عام، خلال ذكرى ميلاده، ينظّم محبّوه حفلاً خيرياً تكريماً له، ويسيرون من مكان الحادث الذي أودى بحياته في كرواتيا إلى مثواه ومنزله التذكاري في كروشيفو، بمقدونيا، وهو المكان الذي يقصده آلاف المعجبين على مدار العام.