كان يبدو قلِقاً، ومرتعِشاً. رجلٌ في أرذل العمر كما تقول العرب؛ أو هكذا بدا لي أوّل وهلة عندما دخل علينا في ذلك الضحى البعيد. كنت بمكتب الصديق إبراهيم شبُّوح مدير "دار الكتب". فجأة، انفتح الباب وأطلَّ منه أحدُ الموظَّفين قال بلهجة شبه معتذِرة ومحتشمة:
- "سي نور الدين بن محمود يريد أن يراك".
ثم استطرد:
- "يقول إنه بن محمود صاحب مجلة الثريا".
أحسسْتُ أنّ الخبر باغَت صديقي. فالدكتور إبراهيم شبّوح أرشيفُ التاريخ التونسي المعاصر يعرفه بجزئيّاته، وتفاصيله الدقيقة، وأيضاً ما أهمله المؤرّخون عن قصد.
وسريعاً قام للزائر، وأدخله مكتبه بترحاب. وتحلّقنا حول الرجل وبدأ يتكلّم.
وعرفتُ لماذا بوغت صديقي، فالرجل صحافي ومثقّف تونسي مهمّ، يعيش في المنفى منذ 32 سنةً هي عمر الحقبة البورقيبية، ولم يكن صديقي يتوقّع أن يراه في تلك اللحظة. وعرفتُ أنّه كان مديراً للإذاعة التونسية غداة الحرب العالمية الثانية، وأنّه هو من أدخل "العنصر العربي" (يقصد الفرد العربي)، لهذه الإذاعة التي كانت وقفاً على المستعمِرين، وأعطى فرصة لكلّ الطاقات الإبداعية التونسية في العمل، وأنّه أنشأ صحيفتي "الثريا" و"الأسبوع" الذائعتين في الأربعينيات والخمسينيات، وأنّه كان باختصار قطب الحركة الفنية والثقافية التونسية في الأربعينيات والخمسينيات. حدثنا، أيضاً، عن زيارته الأولى إلى بيروت، عندما كان لقاء المغاربة بالمشارقة عزيزاً.
حدّثنا عن بيروت لمّا كان لقاء المغاربة بالمشارقة عزيزاً
تكلّم عن الاستقبال الكبير الذي أقامه على شرفِه صديقه المرحوم رياض طه، وحضره بعضُ الوزراء اللبنانيين، وكيف سامرهم عن الحركة الثقافية والفكرية في تونس. وحدّثنا عن مناقبه في المهجر الفرنسي، عن دار النشر التي أسّسها في باريس وعن ترجمته للقرآن، وعن تأريخه للمتن القرآني، وعن كتاباته حول الحركة الصهيونية، وعن نفيه... نفيه الذي ظلّ يتردّد في كلامه كلازمة حزينة. هاجر لأنّه عارض بورقيبة، عارض السلطان وكما يقول ابن خلدون: "من حارب السلطان زهد في الدنيا"... واليوم لا أحد يذكر نور الدين بن محمود. وليس هناك في الأجيال التونسية الجديدة من يكون قد سمع بهذا الاسم؛ إنّها أجيال بذاكرة بيضاء.
ولا يدري أحدٌ شيئاً عن كتاباته ومخطوطاته التي لم تُطبَع، وأنت عندما تذهب إلى "بيت الحكمة" في تونس، وتتطلّع في قاعتها الكبرى على صُور النخبة التونسية من آخر القرن التاسع عشر وكامل القرن العشرين لن تظفر بصُور أعلام من أمثال: محمد الخضر بن الحسين، ونور الدين بن محمود وغيرهما كثير. لأنّ من يُشرف على "بيت الحكمة" أُناس كانت قد تمّت برمجتهم مبكّراً في مدرسة بورقيبة، الذي قام بمساعدة خبراء فرنسيّين استقدمهم ليشرفوا من خلال برامج التعليم التي وضعوها على إعادة هندسة وصياغة العقل والثقافة والهوية التونسية.
أذكر من بينهم روجير لابروس Roger Labrusse، وقد عرفتُ ابنه الشاعر هوغ لابروس. ونشأ جيل ممسوح الذاكرة، جيل فهم الحداثة على أنها هدم كل ما هو تراث وهوية... بل طال الهدم التراث المعماري كما فعلوا عندما هدم مدير "بيت الحكمة" واجهة القصر الحُسيني، الذي يأوي البيت، والذي شهد إنزال آخر ملوك تونس من على سدّة العرش الحسيني.
أخيراً قرأتُ لصحافيّ فرانكوفونيّ تونسيّ قصيدةً بالفرنسية يتغزّلُ فيها بالصهاينة في عيد الحانوكة اليهودي، وهذا أيضاً يفسّر لك حجّ بعض سقط المثقّفين التونسيين إلى دولة الكيان الاستعماري بوصفها كعبةَ التنوير.
* شاعر ومترجم تونسي مقيم في أمستردام