بعد أيّام من بدء العام الماضي، وقعت مجرزة في منطقة شروني بالخرطوم في صفوف المتظاهرين في "مليونية 17 يناير"، الذين خرحوا مطالبين بمدنية الدولة بعد الانقلاب العسكري، بقيادة عبد الفتاح البرهان، الذي وقع في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 وأدّى إلى فرض حالة الطوارئ في جميع المدن.
في المقابل، دعا "تجمّع المِهنيين السودانيين"، الذي يضمّ في عضويته عدداً من النقابات والروابط الثقافية، إلى التصعيد الثوري وإغلاق شوارع في العاصمة السودانية. وتكرّر السيناريو مرة ثانية بداية الصيف مع ارتفاع حدّة الاحتجاجات التي واجهها مزيد من القمع، لكن البرهان أعلن في الرابع من تموز/ يوليو الماضي خروج القوات المسلّحة من العملية السياسية وإفساح المجال لتشكيل حكومة مدنية، لا يزال التفاوض حولها جارياً حتى اليوم.
يتمسّك السودانيون بقليل من الأمل إذا ما أُعلنت سلطة انتقالية تضمن انتشال البلاد من حالة الفوضى والأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي أوقفت عمل معظم القطاعات الحكومية، ومنها وزارة الثقافة، منذ اندلاع الثورة في كانون الأول/ ديسمبر 2018، والتي أطاحت برئيس النظام السابق بعد أربعة أشهر من بدئها.
يواجه المثقّف مآزق كبيرة تتعلّق باستقرار الدولة وسيادتها
يبدو فائضاً عن الحاجة الحديث عن عمل ثقافي في مثل هذه الفترة المضطربة من تاريخ السودان، التي يواجه خلالها المثقّف مآزق كبيرة تتعلّق باستقرار الدولة وسيادتها وقدرتها على الاستمرار في كيان سياسي موحّد يحمل رؤية مستقبلية تتجاوز أخطاء الماضي. ومن بين هذه المآزق، مثلاً، أحداث النيل الأزرق قبل عدّة أشهر، والتي شهدت عنفاً قَبَلياً راح ضحيته المئات، إذ لا يمكن النظر إليه بوصفه حدثاً عابراً بقدر ما ينبّئ بأزمة في بنية الدولة ومكوّناتها الاجتماعية بدأت مع الاستقلال سنة 1956.
معطياتٌ تفترض وجود مثقّف قادر على التعامل مع سياسات فاشلة تراكمت خلال أكثر من ستّة عقود، مع فشل التنمية الاقتصادية وعجز السلطة عن إدارة التنوّع العرقي والاجتماعي في جغرافيا السودان الشاسعة. ومع عدم قدرة الاحتجاج الشعبي الذي بدأ منذ أربعة أعوام على تحقيق مطالبه بحكومة منتخبة وعدالة اجتماعية، وبروز قوى الثورة المضادة في ظّل تدهور اقتصادي كبير، فإن الفوضى والصراعات الأهلية تصبح سيناريو مطروحاً بقوّة، ولا يمكن لمشتغل في الثقافة تجاهله في هذه اللحظة الحرجة.
وإذا كانت السلطة في السودان قد وظّفت الانقسامات القبلية والإثنية على مدار العقود الماضية عبر انحيازاتها لمكوّن على حساب مكوّن آخر، من أجل المحافظة على النظام، غير آبهة بتعطّل أي مشروع وطني قائم على المساواة، فإن المثقف السوداني يعي ــ بعد ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2018 ــ أن سلطة العسكر قد تواصل توظيف هذه الانقسامات كأدوات للثورة المضادة.
ومع تعطّل معظم الفعاليات والمهرجانات الثقافية، خاصّة في النصف الأول من العام الماضي، كان السودانيون على موعد مع كوارث تُعيد التذكير بعجز السلطة التي لا تملك سوى القمع ودفع المواطن إلى الخضوع لها أو ترك بلاده، حيث تسبّبت السيول بتدمير آلاف المنازل في ولاية الجزيرة في آب/ أغسطس الماضي، وبعد شهر أتى قرار محكمة مغربية بسجن اثني عشر مهاجراً سودانياً مدة ثلاث سنوات، على خلفية اقتحام السياج الحدودي لمدينة مليلية، في محاولة للوصول إلى أوروبا، وهو حلم يراود مئات آلاف السودانيين الذين قدموا إلى بلدان شمال أفريقيا خلال السنوات الأخيرة في حلم للخلاص من عذاباتهم والعيش في المنافي.
الخوف على وحدة البلاد والانتقال إلى حكومة مدنية منتخبة تنهي الثورة المضادة وتعمل على تنمية مستدامة وعادلة، يشكّل أولوية على التفكير بأحوال الثقافة التي لا تسرّ أحداً، ومنها ضعف البنية التحتية مع إهمال قاعات المسرح في معظم مدن البلاد، وعدم وجود قاعات للعرض السينمائي باستثناء ما يُقَدّم في المراكز الثقافية الأوروبية. كما تكاد تخلو البلاد من وجود غاليريهات متخصّصة، إلى جانب تردّي صناعة الكتاب والنشر، لكن الأهمّ من ذلك كلّه وجود مثقّف مستقل وفاعل يؤمن بتغيير حقيقي.