طوال العقدين الماضيين، تصدّر الاهتمام بالبُعد العربي والإسلامي واجهة المشهد الثقافي في قطر، في مرحلةٍ شهدت إنشاء العديد من المؤسّسات المتخصّصة في الفكر والإبداع والفنون، والتي تبنّت رؤى وبرامج تُبرز هويّة البلد الحضارية واتّصاله الوثيق بتراثه وذاكرته، مع انفتاحٍ في الوقت نفسه على ثقافات العالم شرقاً وغرباً.
اضطرت هذه المؤسّسات إلى وقف أنشطتها منذ انتشار فيروس كورونا، والانتقال إلى الفضاء الرقمي، قبل أن تعيد فتح أبوابها لاستقبال الجمهور مطلع تمّوز/ يوليو الفائت. خطوةٌ حقّقت نجاحاتٍ عبر تطوير آليات العرض لا سيّما تلك التي قدّمتها "متاحف قطر"، وكذلك بثّ جميع المؤتمرات والندوات التي نظّمها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" و"جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي" و"مكتبة قطر الوطنية" وغيرها على منصّاتها الإلكترونية.
مقابل ذلك، حالت الجائحة دون تنظيم العديد من الفعاليات المهمّة، وفي مقدّمتها "معرض الدوحة الدولي للكتاب" والذي تأجّلت دورته الحادية والثلاثون حتى الثالث عشر من كانون الثاني/ يناير 2022، والتي ستشهد أوسع مشاركة لدور النشر والكتّاب الضيوف، بعد رفع الحصار الذي فُرض على قطر منذ عام 2017، كما اختار المعرض فلسفة العِلم ودورَه في نهضة المجتمعات محوراً لجميع أنشطته المصاحِبة.
في صدارة التظاهرات التي أقيمت العام الماضي، يأتي "مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية" الذي عقد "المركز العربي" دورته الثامنة في آذار/ مارس 2021 تحت عنوان "الدولة العربية المعاصرة: التصوّر، النشأة، الأزمة"، وناقش محاور أساسية منها علاقة الفكر العربي الحديث والمعاصر بإشكالية الدولة، وأُطر شرعيّة الدولة العربية الحديثة، وأنماط الدولة الفاشلة في العالم العربي.
عامٌ شهد روزنامة كثيفة من الندوات والمعارض رغم الجائحة
كما نظّم المركز فعاليات بارزة مثل الدورة الثانية من "المدرسة الشتوية" التي تناولت عملية بناء الدولة بعد الاستعمار، ومشاريع بناء الدولة في العالم العربي ومعوّقاتها، والهيمنة الأميركية، وكذلك مؤتمر "استمرارية الحروب الأهلية العربية: الأسباب والتحديات"، الذي أضاء تأثير القوى الخارجية في مسارات هذه الحروب، واحتمالات إنهاء الحرب وإدارة الصراع من دون عنف.
وواصل المركز مشروعه في إثراء المكتبة العربية بمؤلّفات نظرية وبحوث ميدانية في العلوم الاجتماعية والإنسانية، بموازاة مشروع التعريب الذي قدّم مراجع فكرية وفلسفية أساسية والعديد من الكتب في حقول المعرفة المعاصرة، ونالت جوائز عديدة كان آخرها نيْلُ كتابيْ "معجم العلوم الاجتماعية" (من تحرير كريغ كالهون وترجمة معين رومية) و"البراغماتيون الأمريكيون" (لشيريل ميساك وترجمة جمال شرف) "جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي".
من جهتها، سمّتْ "جائزة حمد"، في دورتها الأخيرة، الصينية كلغة رئيسية ثانية إلى جانب الإنكليزية، مع اختيارها أربع لغات جديدة في فئة الإنجاز، وهي: الأردية والأمهرية، والهولندية، واليونانية الحديثة، في سياق اهتمامها بعلاقة اللغة العربية بلغات أُغفل النقل والتبادل المعرفي معها لمئات السنين، وتبلورت تلك التوجّهات في زمن كورونا من خلال تنظيم ندوات افتراضية استضافت مترجمين من الهند وباكستان وإثيوبيا والصين وغيرها.
بموازاة ذلك، احتضنت "متاحف قطر" عدداً من المعارض الفنية وأخرى تناولت قضايا التراث والتنوّع البيولوجي، وتاريخ الفوتوغراف كما في معرض "ذكريات جميلة من فلسطين" الذي افتتح في تمّوز/ يوليو الماضي في مكتبة "متحف الفن الإسلامي"، وتضمّن مجموعة من الكتب والصور التي تغطّي الفترة الممتدّة من عام 1610 وحتى ثلاثينيات القرن الماضي صدرت معظمها باللغات الأوروبية، تعكس تطوّر الصورة حول القدس والمدن الفلسطينية والعربية في المخيّلة الغربية.
ويتواصل أيضاً في "المتحف العربي للفن الحديث" معرض "عن الصمت" للفنان الجزائري قادر عطية الذي يستكشف التاريخ المشترك بين المستعمِر والمستعمَر، حيث تشدّهما الذاكرة إلى تلك المساحة التي يجب تفكيكها، في سعي للتخلّص من الهيمنة الكولونيالية على مجتمعات العالم الثالث وعلى مجتمعات اللجوء والمهاجرين في أوروبا.
نظّم "المركز العربي" العديد من الفعاليات الفكرية البارزة
أمّا "مكتبة قطر الوطنية"، فاحتشد برناجها خلال العام الماضي بسلسلة محاضرات ومعارض افتراضية، استذكرت في واحدة منها الشاعر الأذربيجاني نظامي كنجوي (1140 - 1209) بمناسبة مرور ثمانمئة وثمانين عاماً على مولده، والذي تركت كتاباته تأثيرها الواسع على شعراء بارزين في الثقافة الفارسية مثل حافظ شيرازي وجلال الدين الرومي، إلى جانب معرض "المهاجرون العرب في الولايات المتحدة: السعي وراء الحلم الأميركي" الذي يوثّق ثلاث موجات من الهجرة العربية ابتداءً من مطلع القرن التاسع عشر حتى منتصف عام 1965، وكيف ساهم المجتمع العربي في أميركا خلال هذه الفترة في الأدب والثقافة بشكل عام.
بدورها، أعلنت "المؤسّسة العامة للحي الثقافي - كتارا" أسماء الفائزين الـ21 بجائزة "كتارا للرواية العربية" في دورتها السابعة، حيث فاز في فئة الروايات العربية المنشورة كلٌّ من الحبيب السالمي من تونس، وأحمد القرملاوي من مصر، وفجر يعقوب ونادر منهل حاج عمر من فلسطين، وأيمن رجب طاهر من مصر، بينما نالها في فئة الروايات غير المنشورة، اعتدال نجيب الشوفي من سورية، وغِيد آل غَرَب من العراق، ويونس أوعلي من المغرب، ومحمد عبد الله الهادي من مصر، ووليد بن أحمد من تونس.
وضمّت قائمة الفائزين بفئة الدراسات التي تعنى بالبحث والنقد الروائي، أحمد عادل القضابي وممدوح فراج النابي من مصر، ورضا جوادي من تونس، ومحمد الداهي ويحيى بن الوليد من المغرب، وحازها في فئة رواية الفتيان الهنوف محمد الوحيمد من السعودية، وفيصل محمد عبد الله الأنصاري من قطر، وعمر صوفي محمد من مصر، ومجدي يونس من مصر، ومنيرة الدّرعاوي من تونس، ونالت شمة شاهين الكواري جائزة الرواية القطرية المنشورة.
يكتمل المشهد بتنبّه المؤسسات القطرية إلى أهمّية حضور الثقافة القطرية بانتمائها العربي الإسلامي في البطولات الرياضية من خلال تنظيمها للعديد من الفعاليات ضمن "كأس العرب" الذي اختتمت دورته الأخيرة في الدوحة الشهر الماضي، كما تجري الاستعدادات لتقديم صورة مماثلة خلال استضافة مونديال قطر 2022.