يقول تيري إيغلتن في كتابه "الثقافة": "أمرٌ نادر أن يجري الحديث عن الجوانب السلبية للثقافة، وإننا نتذكّر باخ وبيتهوفن عندما تذكر الثقافة"، وليس نيرون أو هولاكو بالطبع. من الصعب أن تعثر على ما يناقض قول إيغلتن هذا. وإذا كان الوزير النازي غوبلز قد قال إنه يضع يده على مسدّسه حين يسمع كلمة ثقافة، فإنه كان يشير إلى خطورة دورها، ويهدّد بإسكاتها.
لكنّ الحقيقة أنّ لدينا مشكلة لم تُحَلّ بعد، وهي أن عدداً كبيراً من المثقفين يدافعون عن أنظمة حكم تتّسم بالاستبداد. صحيحٌ أنهم لا يدافعون عن الطغيان مباشرة، إذ يحتاج الأمر إلى وقاحة لا نظير لها، لكنّهم يدافعون عن سلوك الطغاة بعد إلباسهم أثواباً مستعارة من أيّ حقل فكري يمكن أن يجدوا فيه معجماً دسِماً من الخيارات.
وفي حال وجود فرد أو جماعة من المثقّفين تناصر المستبد (دافع إزرا باوند عن النازية)، فهل نقول إن الثقافة هي التي تفعل ذلك؟ أم أن الثقافة ستبقى نظيفة بينما تُلصَق الوضاعة بالمثقّف؟ لكن المثقفين يشتغلون بالثقافة (أم بمادّة أخرى غيرها؟) كي يُقدّموا خطاب التأييد لأيّ نظام حكم، وهذه هي العقدة التي قلّما ناقشتْها موضوعاتُ البحث في الثقافة.
وفي مثل هذه الأحوال ينبغي الفصل بين الثقافة والمثقّفين. ففيما تُبرَّأ الثقافة، يُتَّهم المثقّفون بشتّى التهم، وأكثر ما تظهر هذه الحالة في البلاد التي تشهد انشقاقات واسعة بين المثقّفين في الموقف من الأنظمة الحاكمة. ويمكن أن تكون البلاد العربية مرجعاً نموذجياً في هذا الشأن، فقد تراجعت، إن لم تكن قد اختفت، من حياتنا معارك المثقّفين حول الرواية والمسرح والدراسات النفسية في الشعر، واقتصرت المواقف على: مع أو ضد.
اختفت معارك المثقّفين وباتت المواقف تقتصر على: مع وضد
لا يستطيع أحد أن ينفي الآخر من حقل الثقافة. وبسبب الخبث، فإن بعض المثقّفين يميلون إلى استخدام مفردات منقولة أو مستعارة من حقل السياسة أو الأخلاق، وهو الحقل الغامض المحبّب اليوم لمعظم المثقّفين العرب، والسوريين منهم على وجه الخصوص. هل الآخر مثقّف؟ نعم، ولكنّه بلا أخلاق. هل الآخر مثقّف؟ نعم، غير أنه دجّال، انتهازي ووصولي، جبان ومرائي، أو أنه خائنٌ وعميل ومأجور ــ وتهمة المأجور هي الأكثر رواجاً. لا تقرأ جملة نقاشٍ أو جدلٍ مع الأفكار، إذ إن المستهدف هو الشخص، الإنسان، الكيان الحي، والقصد إنهاء وجوده، وستذهب أفكاره إلى الهباء.
ولهذا، فإن العلاقة بين المثقّفين السوريين اتّسمت بالكراهية والحقد والأمنيات التدميرية. وإذا كان مثقّفو الموالاة لا يخوضون أيّ حوار جدّي فيما بينهم، وليسوا على استعدادٍ للحوار مع المثقّف المعارض، فإن مثقّفي المعارضة لا يقدّمون نموذجاً بديلاً، فلا حوارات ومناقشات حول مهام الأدب والفن، أو أشكال الكتابة، ولا حوارات حول النظام السياسي، أو التركيب الطبقي، أو دور الشرائح الاجتماعية في التطوّر أو كبح التطوّر. ومنهم مَن يشتم أبناء الشعب الصامتين، وبعضهم بات يتحدّث عن الجينات العاطلة، وقد وجدوا في هذه التّهمة راحةً لضميرهم من الفشل والهزيمة.
* روائي من سورية