منذ تأسيسها عام 1979، ارتبط اسم جائزة "بريتزكر" ــ التي تُمنَح سنوياً إلى معماريّ بارز ما يزال على قيد الحياة ــ بفكرة شبه هوليوودية عن العمارة. ليس فقط لأن كثراً ممّن فازوا بها كانوا نجوماً معروفين في حقلهم، بل الأهمّ من ذلك أنهم كانوا يشتركون في فهمٍ للعمارة بوصفها فضاءً للبذخ والإدهاش والأبّهة، حيث المباني الهائلة، أو الملتوية، والصروح القائمة على بُعد مفهوميّ وتقني أكثر من انتمائها إلى رقعة للعيش والتبادل الاجتماعي.
أمرٌ بدأ يتغيّر في السنوات الأخيرة، حيث راحت الجائزة ــ التي يُنظَر إليها بوصفها "نوبل" العمارة، في إشارة إلى مكانتها البارزة ضمن هذا الحقل ــ تُكافئ معماريين يحملون تصوّراً أكثر اجتماعيةً عن عملهم، الذي يفهمونه في سياقه الحضري والسياسي، وكذلك في سياقه البيئي، ولا سيّما في وقتٍ بات يُنظَر فيه إلى فعل البناء والتشييد كعامل من عوامل خلخلة التوازن البيئي عبر تقليل الرقع الخضراء واستبدالها بالحجارة والإسمنت المسلّح.
وما تزال الجائزة تستكمل هذا المنعطف نفسَه، حيث أعلن منظّموها، أوّل من أمس الثلاثاء، عن منحها في نسخة 2023 إلى البريطاني ديفيد تشيبرفيلد (1953) الذي وقّع عشرات المشاريع في مختلف بقاع الأرض، ومن بينها مبانٍ للسكن الاجتماعي، وصُروح للترفيه الثقافي والرياضي للأطفال، إلى جانب العديد من المتاحف.
تخرّج تشيبرفيلد من "الجمعية المعمارية" بلندن عام 1977، إلّا أنه لن يعرف نجاحاته الأولى في بلده، بل في اليابان، حيث شكّلت الشركة التي أسّسها عام 1984 سمعةً طيبة خلال أعوام قليلة عبر تصميماتها الداخلية، لتُقترح عليه مشاريع ستضعه أكثر تحت الأنظار، مثل تصميمه لمتحف في منطقة شيبا (1987)، والمقرّ الرئيسي لشركة "ماتسموتو" في أوكاياما (1990).
هذه النجاحات في الخارج ستفتح له الأبواب في بلده، حيث دُعي لاستكمال مشاريع ترميم وتوسيع "متحف التاريخ الطبيعي" (1993)، أو بناء "متحف النهر" في أوكسفورد شاير (1997)، والذي يُعَد من أنجح تصميماته وأجملها، حيث المشروع المعماري يتناسق مع مُحيطه الطبيعي، ولا يُفرَض عليه من الخارج.
هذا البحث عن التناغم مع السياق الحضري أو الطبيعي هو الذي سيمنح تجربة الفنان صفة "التعدُّد"، فنحن لا نعثر في مجمل مشاريعة على "هوَسٍ" أو نظرة واحدة تتكرّر، بل على مرونةٍ وإعادة بناء للأولويات الهندسية والجمالية في كلّ مرّة، وبناء على كلّ سياق جديد، لنجد أنفسنا مرّة في حضرة صرح يستعيد تقنيات بناء الأكواخ القديمة، أو بناية مشيّدة وفق أبعاد هندسية صارمة تذكّرنا بعمارة الباوهاوس.
في مُجمل المشاريع التي وضعها، منح ديفيد تشيبرفيلد اهتماماً ملحوظاً إلى البُعد الطبيعي الذي حوّله إلى معيارٍ أساسيّ في أعماله، حيث يُعطي أهمّية كبيرة لضرورة دخول ضوء الشمس إلى المباني، وبالتالي الاستغناء قدر الإمكان عن الطاقات المصنّعة، إلى جانب مُساءلته المستمرّة لطبيعة المواد التي يلجأ إليها في البناء.
أمّا على المستوى الاجتماعي والمعيشي، فلطالما ذكّر المعماري بأن إحساس ساكني المباني التي يهندسها يُعَدّ أساسياً بالنسبة إليه، هو الذي يبحث عن تقديم فضاءات عيش وإقامة "حميمة" و"مألوفة"، أي قابلة للعيش، وليس فقط هياكل إسمنتية قائمة على الإدهاش من دون إعطاء أي دور للعنصر البشري الذي سيقيم فيها أو ينظر إليها من الخارج.