تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الثامن والعشرون من يونيو/حزيران، ذكرى ميلاد المفكّر والكاتب جان جاك روسو (1712 - 1778).
لم يتوقّف جان جاك روسو عن الترحال. هكذا تقول سيرته، سواء حين كتبها متفرّقة في عدد من أعماله، أو حين صاغها مؤرخون كثر في نُسخ متعدّدة. ترحُّلُ روسو لم يكن في المكان وحده. لا يزال يعبر الأزمنة كأنه - وهو الذي رحل مثل أكثر من قرنين - أحد معاصرينا، كما انتقل بين مسائل وثيمات متباعدة؛ أصدر الرواية العاطفية كأنه كاتب رومانسي (هيلويز الجديدة)، وكتب عن الموسيقى مثل متخصّص (مقالاته في الموسوعة)، وتناول السياسة وكأنه رجل متمرّس في عوالمها قريب من مؤسّسات الحكم (في العقد الاجتماعي)، ونظّر للتربية وهو الذي لم يُشرف على تربية أبنائه الخمسة (إميل)، كما كتب في الفلسفة دون تلك الأجهزة النظرية المعقّدة التي يتوسّل بها المتفلسفة ليُبلغوا أفكارهم.
هذه التنقّلات المضمونية، رافقتها تحوّلات في أشكال الكتابة، وهذه رحلة روسويّة أخرى. في 1750، وضمن مشاركة في مسابقة بحثية أطلقتها "أكاديمية ديجون"، وضع خطابه حول العلوم والفنون. كان يستعيد وقتها جنساً من الكتابة اعتمده، ويحسب اختراعه للكاتب ميشيل دي مونتاني في القرن السادس عشر. كان جنس المحاولة يقترح نصّاً فكرياً لا يُقصي صوت المؤلّف وذاتيّته.
المفارقة أنه حين بدأت الاشتغالات البحثية والنقدية على هذا الجنس (القرن العشرين)، كثيراً ما جرى اعتبار روسو أباً للمحاولة أكثر من مونتاني ذاته، حيث إن التطوّر اللاحق لكتابة المحاولة قد تبنّى منهج روسو فيه لا طرح مونتاني على مستوى البناء ومنسوب تدخّل ذات المؤلف وطول النص وامتداداته المضمونية والاختيارات الأسلوبية، وباتت أعمال "خطاب حول العلوم والفنون" و"خطاب حول أصل التفاوت بين الناس" (1755)، خصوصاً "محاولة حول أصل اللغات" (صدر بعد رحيله في 1781) هي نماذج جنس المحاولة الحديث.
كما لم يرِثْ الموقع الاجتماعي، لم يرث تقاليد الكتابة
متابعة روسو في كتاباته، التي ذهبت أيضاً إلى تأليف المسرحيات وأدب الرسالة، تشير إلى مِروحة واسعة من الأشكال ضمن ظاهرة برزت في عصره، القرن الثامن عشر أو عصر التنوير، لكنّها بلغت أعلى تجلّياتها معه. فإضافة إلى التنويع، كانت لدى روسو نزعة نحو مراجعة المُعطى النظري لهذه الأشكال، فكما لم يرِثْ الموقع الاجتماعي - والذي كان المدخل الذي يوصل المهتمّين بالثقافة إلى فضاءات الفكر والفن والأدب في عصره - لم يرث تقاليد الكتابة. كان يعيد اختراعها في كل مرة حسب حاجة فكرته ونصّه.
تدلّنا أعمال مثل "في العقد الاجتماعي" و"إميل أو عن التربية" إلى الجهد البنائي في كتابات روسو، حيث يقوم العمل على تصوّر مشروع متكامل لا يخضع إلى التقسيمات القطاعية للمعرفة بين أدب وفكر وعلم وفن. يضع روسو أعماله في منطقة تلامس كل تلك المساحات، ثمّ تذهب في العمق إلى الإجابة عن المسألة التي يطرحها، ولتكن أداته الحكاية أو الاستنتاج المنطقي أو الحفر التاريخي، لا يهمّ، ما دام يمضي نحو تجسيد فكرته في نصّ مؤثّر.
وسيفهم قارئه أن ذلك الأسلوب السلس الذي يترقرق في ثنايا كُتبه ليس دليلاً على نصوص تُكتب عفو الخاطر، فوراء كلّ حركةٍ منعطفاتٌ مدروسة ضمن خطّة مرسومة بعناية من البداية. خطّة لن يجد أثرها القارئ لاحقاً لأنها مذوّبة في كؤوس البلاغة والبساطة والوضوح. وكأن روسو كان يتقن إخفاء الورشة الذهنية الصاخبة التي تبلورت فيها أعماله، فحين يكتمل المشروع تنعدم آثار التخطيطات والترتيبات، ولقد حدث ذلك حتى في عمل غير مكتمل مثل "هواجس المتنزّه المنفرد بنفسه" (صدر بعد رحيله في 1778).
حين تبلور مشروع كتابه "الاعترافات"، لم يكن هناك جنسٌ أدبي اسمه السيرة الذاتية. قال روسو لنفسه: لِمَ لا أحوّل ذلك الطقس المسيحي في الاعتراف بالخطايا، صغائرها وكبائرها، إلى أدب. ربما استلهم أيضاً عملاً قديماً لأوغسطينوس في نفس الاتجاه، لكنّ روسو ذهب أبعد وأعمق. تحدّث عن نفسه بكثير من الشجاعة، والقسوة مع الذات، خصوصاً ضمن محاولة صادقة للفهم، وكيف نفهم العالم من دون فهم للذات؟
اليوم، نعرف أن منظّري السيرة الذاتية يعتبرون روسو أحد آباء هذا الجنس الأدبي. كان فيليب لوجون يُلصق اسماً طريفاً على السيرة الذاتية حين يقول: "إنها جناية روسو"، فبعده تحوّلت إلى مؤسسة أدبية جديدة لا تزال تتوسّع إلى يومنا.
وحين حاول جاك وإيليان لاكارم تفسير أسباب صعود جنس السيرة الذاتية في الثقافة الغربية خلال القرن الثامن عشر، وجدا أن ما منع استثمار الكتّاب في هذا الجنس لقرون، وجودُ "أيديولوجيا مضادة للسيرة الذاتية" idéologie anti-autobiographique تحكمها مكوّنات عقائدية واجتماعية وثقافية تمنع كاتباً (والفرد بشكل عام) من "تعرية" ذاته على الملأ، وقد وجدا في اعترافات روسو الحجر الذي ألقي في بركة الكتابة فخلخل بنية "الأيديولوجيا المضادة للسيرة الذاتية" وخلق حالة من التدفّق لم تتوقّف منذ القرن الثامن عشر.
بقي أحد الوجوه الثقافية القليلة المبرّأة من جرائم الغرب
ليس من الممكن فصل مشروع "الاعترافات"، وكتابات روسو عموماً عن عصرها. عصر التنوير الذي آمن بالإنسان، ولم يكن في ذلك العصر مَن يضاهي روسو في صدق هذا الإيمان. كان خارج كل الحسابات الصغيرة لمجتمع الطبقة الأرستقراطية، راعية الفنون والآداب، وخارج حسابات التسابق للانتقال من طبقة اجتماعية إلى طبقة أعلى، لذلك كان إيمانه بالإنسان - مطلقاً وفرداً فرداً - في أعلى الدرجات.
لم يتردّد روسو في اعتبار أن كل قيود الإنسان مفبركة، يكفي أن نتخيّل البدايات كي نعرف أننا نجني ما لا ذنب لنا فيه. وبذلك أدان المجتمع الذي يتحرّك فيه، وقد دفع ثمن هذه الأفكار الكثيرَ من الإقصاء، وربما لولا حاجة مشروع مثل "الموسوعة" إلى مؤلّف مثله لكان الإقصاء أقسى وأشدّ. لم تكن توجد حوله بيئة راغبة في تلك الأطروحات التحريرية، ولا حتّى تلك الحالة التطهيرية التي اتّسمت بها كتاباته، ومن هذه الزاوية تبدو مشاريع روسو حفراً في الصخر، تفجّرت بفضله ينابيع زمن الأنوار وما بعده.
كانت هذه المشاريع في حاجة إلى "مخزن أفكار"، والعبارة لروسو، ويقصد بها توفير ثقافة موسوعية تتيح له فهماً ندّياً لإشكاليات العالم. كانت هذه الموسوعية بناءً ذاتياً عسيراً، ومن حسن الحظ أنه التقى مع مشروع أكثر اندماجاً في المنظومة الاجتماعية، ذلك الذي رسمه ديدرو، وبات كلمة السر لمشروع أضخم، مشروع الأنوار.
عصر الأنوار ذاك، الذي أعلى من المعرفة والمُثل البشرية العامة، كان عبارة عن آلة ضخمة تعمل في أكثر من اتجاه. صحيح أنها مهّدت لانتزاع حرّيات كثيرة لكل الناس، وفرضت العدالة في مساحات أوسع من الأرض، لكنها كانت سبباً في بناء فجوة معرفية واسعة بين الغرب وبقية العالم، ستستغلّها الدول الأوروبية لاحقاً للهيمنة على الكوكب. بات عصر التنوير بوابة عبَر منها الاستعمار والاستكبار الحضاري وسياسات نهب الشعوب.
من عصر التنوير، يظلّ روسو ذلك الوجه النقي الذي تتسامح معه كلّ الشعوب قاطبةً. تُعاد مراجعة أطروحات الأنوار وخلفيّاتها، وتنتهي بالتدريج أَسطَرَتُها، فيما يُبرّأ روسو وحده. لا شكّ أن الثقافة الفرنسية في غزوها لبلاد عربية عديدة قد اعتمدت هذا الوجه البريء لروسو (الذي لم يكن فرنسياً إلّا باللغة) كي تتسرّب إلى الأعماق الروحية والفكرية لكثير من العقول التي تنبت كلّ جيل. فحين يختلط الإنساني المطلق بسياسات الهيمنة الثقافية لن نعرف السمّ من الدسم.
وها أن الثقافة العربية قد وضعت روسو في مقام أعلى من بين كوكبة الموسوعيين والمؤلفين والعلماء والفلاسفة الذين عاصروه، فاستقبلته منذ بدايات حركة الترجمة في القرن التاسع عشر وصار جزءاً من الخبز اليومي للحياة الثقافية، كما في كل ثقافات العالم الأخرى.
وصلت نصوص روسو بالفعل إلى اللسان العربي، لكن هل وصل ما هو أبعد وأهمّ؟ نزعته الموسوعية، تنوّعه الأجناسي، معادلاته الأسلوبية، منطقه التجديدي، إيمانه بالإنسان كقضية، شجاعته في قول ما في ذاته (...)، ثم هل نظرنا إلى روسو كإنسان بقلبه المكسور الذي لم يتوقّف عن ترتيب العالم؟ ما هي الشروط التي أتاحت هذا التدفّق الإبداعي الذي لا يزال يضيء من وراء القرون؟