كادت أن تُعقد، في هذه الأيام، صفقة علنيّة في "قصر مزاد" (Vanderkindere) بالعاصمة البلجيكية، لمجموعة "مقتنيات 405"، التي تضمّ جماجم بعض الشخصيّات العربيّة والأفريقية المنحدرة من الكونغو، والتي عاشت إبّان الاحتلال البلجيكي لهذا البلد بين 1867 - 1960. وقد روّج الإعلان عنها في موقع "دوروت.نت"، تحت عنوان: Curiosa التي تعني: الغريب أو الخارج عن المألوف، والمثير للفُضول والاهتمام. وذلك في استمرارٍ لتقليد استعماري عمرُه زهاء قرنَيْن، كان يرى في أهالي المُستعمرات السابقة "كائنات غريبة"، تُهدي ضربًا من المتعة لا تتوفّر في الحياة الرتيبة. فقد كان الرجل الأبيض، ولا يزال، يَنشُدها في ما يطلق عليه بـ Safari، وهي مفردة عربية الأصل تدلّ على الارتحال إلى أدغال أفريقيا لاصطياد الحيوانات البرّية، ورؤية أهل القبائل من ذوي الهيئات العجيبة والتقاليد التي تعود إلى حِقبة ما قبل التاريخ.
في هذا الإطار وحده، يمكن أن نفهم تعلّق بعض الهيئات الغربيّة، وهي هنا "دار المزاد" البلجيكية، بهذه الرواسب الاستعماريّة في تواصلٍ لنَظرة الاستعلاء التي ترى في أفريقيا وأهاليها مجال "الغرائب"، وأرضًا يقطع فيها الإنسان الأوروبي مع الرتابة، من خلال اقتناء الأشياء التي تعودُ للآخر والاحتفاظ بها بغرض التباهي، إذ يدلّ اكتسابُها على الوجاهة والثراء، وهي تسلية يَكسر بها روّاد تلك المزادات روتين العادة. ويمكن أن يوغل بحثُهم في الشذوذ والغرابة، فيجدون ضالّتهم المنشودة في الجماجم والعظام، فضلًا عن أنياب الفِيَلة وجلود الحيوانات المفترسة، وغيرها مما اشتُهر في التاريخ الثقافي للاستعمار باسم Exotisme، ولا ترجمة له في لغتنا سوى بنُشدان الغرابة وكَسر العادة لدى الشعوب المختلفة.
مزادٌ يذكّر بحالة الإفلات الكامل من العقاب والمحاسبة
وليس هذا الاقتران من قبيل التداعي الحرّ للأفكار، لأنّ الإنسان الأفريقي لا يختلف كثيرًا، في المخيال الاستعماري، عن الحيوانات البرّيّة ولا عن الأدوات المادّية التي تعود إلى العصور الغابرة، فكلاهما مصدر مُتعة بالنسبة إليه، لأنها تنتمي إلى مجال ما سماه تودوروف بحقل "الغرائبي". لكنها غرائبية بماذا؟ ليست الغرابة الموهومة سوى اعتقاد المُستعمِر أنّ كلّ ما عداهُ من الهويّات وما هو مبايِن لمعاييره وقيمه يعتبر خارج التاريخ، واقعًا في مرحلة ما قبل انبجاس الثقافة.
ومن جهة أُخرى، يذكّر هذا المزاد بحالة الإفلات الكامل من العقاب والمحاسبة، ويؤكد أنّ الاستعمار ليس جزءاً من الماضي وقد ولّى بلا رجعة. ذلك أنّ هذه الجماجم تعود إلى شخصيات قُتلت ونُكّل بها، ثم حُزّت من أجسادها لأنها عارضت وجود المحتلّ، ولا ندري بأي طرقٍ مُلتوية جرى استجلابها إلى بلجيكا، ضمن خطط نهبٍ واستيلاء لم تراعِ لا حُرمة إنسانيّة ولا قانونًا، أكان سماويًّا أو وضعيًّا.
حتى ذلك القانون الذي وضعته سلطاتُ بلجيكا ذاتها، كما فرنسا من قبلها، وطالما تبجّحتا باحترامه وطالبتا بفرضه على الشعوب المستعمرَة لاستعاضة تشريعاتها التي كانت، في نظرهما، متخلّفة ووحشيّة. لكن، حين يتعلق الأمر بالعرب والأفارقة، تسوّغ قوانين هذه الدول انتهاكاتها وتدخّلها في متاهات الاستثناء.
ساوى المخيال الاستعماري الإنسان الأفريقي بالحيوانات
كما قد شُرّعت هذه الممارسات، في المخيال الاستعماريّ، بالرغبة في تعميق علوم الأنثروبولوجيا والإثنيات والحفريات وغيرها من العلوم الإنسانيّة التي كانت ترى في القبائل الأفريقية موضوعًا لهذه المعارف الناشئة وحقلًا منهجيًّا بِكرًا يساعد في استكشاف عادات الإنسان البدائيّ، ورموزه وأدواته من أجل تثبيت مبدأ تفوّق الحضارة الغربيّة. وفي أحسن الحالات، مثّلت هذه العادات في خطاب عالِم الإناسة الفرنسي كلود - ليفي ستراوس (1908 - 2009)، "ثقافة" هذا الآخر. إلا أنّها لا يمكن أن تُضاهي ثقافة الغرب، ولا أن تقف معها على قدم المساواة. ألم يقل الرئيس الفرنسي الأسبق ساركوزي جهارًا وفي خطاب رسمي إنّ "الإنسان الأفريقي لم يدخل التاريخ كفاية"؟ (26 يوليو / تموز 2007).
كما تقوم فكرة عرض الجماجم بأسرها على مصادرة أُخرى، مفادُها أنّ امتلاك هذه "التُّحَف" دليلٌ على الوجاهة والثراء وحب التميّز، يعني أنّها تسلية يتعالى بها الأثرياء عن المألوف. ذلك أنّ صور الجماجم قد عرضت على موقع Drouot.com الذي يعدّ نفسه رائدًا في مجال الترويج لـ beaux objets ("الأشياء الجميلة")، علمًا أن مصطلح "أشياء"، في لساننا العربيّ، لا يؤدّي المعنى الحقيقي لمفردة Objet، التي تدلّ هنا على التحف والآثار الفنّيّة، بمعنى أنّ هذا الموقع يتعامل مع الرأس، أقدس مكوّنات الإنسان في كلّ التشريعات البشرية، كما لو كان لدى المشتري، أي الثّري الغربي الأبيض، موضوعَ متعة "جماليّة". وهو ما يَشي بمدى الازدراء الذي وصل إليه هذا الموقع، ومدى احتقار القائمين عليه للآخر الذي تقع تشيئتُه بكل بساطة من أجل إمتاع الثري وهو لا يزال يرى في الرّجل الأسود مُخلّفاتٍ، تُقتنى بحفنة من اليوروهات. وفي هذا الصدد، نذكر أن سعرَ الجمجمة الواحدة لم يتجاوز بضع مئات من اليوروهات.
ومن اللافت أنّ سلطات البلدان الأوروبية تنزع اليوم عمومًا إلى ردِّ جزء مما نَهبته من الأغراض واللوحات والآثار، وإنْ باحتشام كبير، إلى الدول الأفريقية، وليس في اقتنائها على رؤوس الملأ. ولذلك لا نفهم لماذا سار القائمون على هذا المزاد بعكس التيار؟ السبب الوحيد هو استمرار مبدأ الإفلات من العقاب، ومخيال تميّز الرجل الأوروبي الذي يحقّ له أن يبيع ويشتري كلّ شيء بلا محاسبة من أحدٍ، وأنّ له أن يتصرّف في كلّ خيرات أفريقيا وحتّى في بَشرها أو ما تبقّى منهم.
لحسن الحظّ، ألغِي المزاد تحت وطأة الانتقادات الوجيهة والمشروعة التي أطلقتها جمعية "الذاكرة الاستعماريّة"، وغيرها من رجال القانون والعاملين في مجال حقوق الإنسان. لكنّه إلغاءُ تخوُّفٍ ومجاملة، لأنّ إدارة المزاد لا تزال تصرّ على أنها "تعمل في ظلّ الأُطر القانونية، وأنّ عمليّة البيع تحترم كلَّ الشروط الإجرائية"، وهو ما يشي بتواصل التلاعب بالقانون الذي طالما شرّع للجرائم وسوّغ لغيرها من الانتهاكات.
وقد كان للشرّ أن يكون أهون، لو عرضت هذه الجماجم في إطار ثقافيّ، هادف إلى بلورة قراءة شاملة لهذا التاريخ الاستعماري المُنفلت، وتفكيك الآليات والأفكار التي أدّت الى ارتكاب فَظاعاتٍ وحشيّة على يد ملك بلجيكا، ليوبولد الثاني (1835 - 1909)، الذي كان يعتبر الكونغو "ملكيّة خاصّة". وكان الخطب أيسر لو مَوّل هذا المزاد تظاهرات ثقافية لتفكيك تاريخ الاستعمار البلجيكي، الذي لا نسمع عنه الكثير لأنه يتخفّى وراء الإمبراطوريات الاستعماريّة الكبرى، مثل إنكلترا وفرنسا. في حين أنّ الشرّ واحد، وأنّ المعاناة البشريّة لا تتجزأ، ولا يُزايد عليها إلا في مزاد علني يعرض "تحفًا" يتباهى الواحد منهم بامتلاكها، لأنّها رمز القوّة الماضية ومن غنائم حروبها. وهذا قتلٌ ثانٍ لأصحاب تلك الجماجم.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس