تُشكّل قضية الإبادة العرقية والتهجير اللذين تعرّض لهما "الموريسكيّون" (الكلمة الإسبانية لوصف الأندلسيين من أصول عربية وإسلامية) في الأندلس، بعيد نهاية الحُكم العربي الإسلامي للبلاد عام 1492، وبلغا ذروتهما مع ترسيم قرار الطرد من قبل الملك فيليب الثالث في 9 نيسان/ إبريل 1609، واحدةً من القضايا التي ما تزال تشغل المختصّين بالتاريخ عموماً؛ ذلك لما اتّسمت به من جرائم تطهير وإبادة، وكونها لا تُستعاد من مبدأ الماضي الذي انقضى، بل تكتسب راهنيتها من اعتبار أنها أعادت صياغة هويّة وشكل إسبانيا التي نعرفها اليوم.
"المشهد الموريسكي: سرديات الطرد في الفكر الإسباني الحديث"، عنوان كتاب الباحث التونسي حسام الدين شاشية (1984)، الصادر حديثاً، في 640 صفحة من القطع الكبير، عن "مركز البحوث والتواصل المعرفي"، و"مؤسّسة التميمي للبحث العِلمي والمعلومات" في تونس.
يرصد تشكُّل رؤية الكُتّاب الإسبان لهذا التاريخ عبر أربعة قرون
يُحلّل الكتاب مُختلف التمثُّلات الإسبانية والعربية للتاريخ "الموريسكي"، منذ بداية الفترة الحديثة إلى اليوم، كما يبحث في تطوّر حضور هذا التاريخ في النصوص الأدبية والإخبارية الإسبانية في "عصرها الذهبي"، خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر. ثم ينتقل إلى دراسة التناول الإسباني والعربي للمسألة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، أي من خلال النصوص ذات الطبيعة التاريخية، والصُّحف، وأدب الرحلة، والروايات والمسرحيات، كما يبحث في التمثّل العربي التاريخي والأدبي المُعاصر للتاريخ الموريسكي وكيف تطوّر كمّاً ونوعاً.
ويحاول المؤلّف البتَّ في تشكُّل الرؤية التي حملها الكُتّاب الإسبان حول هذا الموضوع على امتداد أربعة قرون، وذلك وفق منهج يُقارب فيه عبارة بول ريكور بين "الفائض من الذاكرة هنا، والفائض من النسيان هناك"، في محاولة للكشف عمّا يتخفَّى وراء قلق المجتمع الإسباني وتوتّره حيال هذه القضية الإنسانية، ورصد مواضع التلاعُب بالذاكرة وتعرية خلفياتها.
ضمن هذا الإطار، خُصّص القسم الافتتاحي للخطابات الدينية المُبرِّرة لقرار "الطّرد"، وعرَض الباحث لتأرجُح المصادر الإخبارية الإسبانية للقرن السادس عشر، بين دواعي الإنكار، بين وضرورات القراءة في سياق ثورات الموريسكيّين بغرناطة وبلنسيّة، وفق ما كشفت عنه مؤلّفات أورتادو دي ميندوثا، وخينيس بيراث دي هيتا، ولويس ديل مارمول كربخال، وأنطونيو كورال إي روخاس، مع التشديد على سقوط تلك المعالجات في التحقير والدُّونية وانعدام الثقة في مسيحيّة تلك الجماعات المُضطهَدة وسحقها ثقافياً، وتعمُّد جبّ جميع ما شكَّل تأصيلاً لشخصيتها وثقافتها العربية والإسلامية.
كما لم تخرج مواقف بعض الشعراء المُعاصرين إزاء قرار "الطّرد"، حسب الكتاب، من موقع العِداء المُعلَن، وغابت عنها الصور الشعرية المُبتكرة، فيما عدا الصورة النمطية حول الإعجاب بشجاعة العربي وفروسيّته، في حين سقطت أشعارٌ أُخرى في نوع من السرد المُباشر للوقائع والأحداث، وعكست، على شاكلة الصحافة اليوم، نبضَ المواقف الرسمية المُتشدّدة للحكّام ورجال الكنيسة.