إذا أردنا رصد عاملٍ مشتركٍ بين شعراء المشهد العراقي الراهن، فهو بكلّ تأكيد الكتابة عن هاجس الكارثة. لكنّ هذا العامل يعكس اشتراكاً تداولياً موضوعياً فقط، ولا اشتراكاً أسلوبياً. فكلّ شاعر يحاول شقّ طريقه الشعري عبر مراحل تجريبية قد تنبع من منابع واحدة بحكم تأثير المحيط الواحد وتقليدية المصادر المعرفية، لكنّها تتمظهر بأشكال مختلفة عند بقية شعراء الجيل، بناءً على درجة الموهبة وما تضفيه القراءة من خبرة، وهذا ما نراه في المجموعة الشعرية الثانية "أغنية عن نهاية العالم" للشاعر العراقي حسين بهيّش (1994)، الصادرة مؤخّراً عن "مؤسسة أبجد للنشر والتوزيع".
يحاول بهيّش الانطلاق من منطقة ذاتية بحتة لا نجد فيها ملامح عالمٍ واقعي ينتهي، بل على العكس، تتّسم قصائد مجموعته بمنسوب عالٍ من الرومانسية، وتحمل خطاباً موجّهاً لذوات أنثوية عديدة، يعكس شيئاً من الانفصال الاختياري عن الواقع رغم أنه لا يتجنّب المباشرة في قول ما يريد. بمعنى آخر، إنّ قصائد المجموعة تحمل أغراضاً، فيها من المباشرة ما يقترب من أغراض الشعر الكلاسيكي، كالتشبيب والغزل، وفي الوقت ذاته تحاول الانفتاح على آفاق أُخرى دون الالتزام بناظم معياريّ نستطيع معه مطابقة الحقل الدلالي مع الحقل المعجمي.
في قصيدة "لأنك الجريمة الأولى" مثالٌ عن هذه الظاهرة التي تميّزت بها كل قصائد المجموعة؛ يقول في أحد مقاطعها:
"أحبّك لأنك الجريمة الأولى، التي بقيتُ أحوم حولها
إلى أن أمسكني الأوغاد من عنقِ قصيدتي
وجرّوني بعيونهم مثلَ تمثال طاغية".
ثم يعود في مقطع آخر من القصيدة ويقول ما قاله في المقطع السابق، ومؤدّاه الاعتراف بالحبّ ووصف صعوبته:
"هل سيُتيح لي الموت فرصة للحصول على لقاء؟
مثلاً، أدهن جسمي بزيتٍ ما أو ألبس طاقية الإخفاء،
وأكسر القواعد وأعبرُ الحدود مثلَ هاربٍ".
لكنّ القصيدة لا تنحصر في هذه الأجواء، بل تتضمّن انثيالات صورية أُخرى تبتعد عن مركز القصيدة الذي صار عنواناً لها، وهو مركز دلالي أيضاً بقي يحوم الشاعر حوله في بناء القصيدة كما يحوم داخل القصيدة حول جريمته الأولى. كلّ ذلك يحدث في قصيدة واحدة قد لا تتحمّل قول كل شيء، لكنّها بالتأكيد تحمل إشارة عن طاقة شعرية مُستثارة، تطمح لقول كلّ شيء دفعةً واحدة. وهذا الأمر يطرح تساؤلاً: هل تتّفق التقنية المتبنّاة لبناء جسم القصيدة مع ما شخّصناه من ظاهرة غرَضية صريحة؟ لربما يتحقّق ذلك من خلال استثمار ما يتيحه هذا النوع الشعري من إمكانيات، كتعدّد الأصوات أو الخطوط الدرامية من قصّ وسرد، لكنّ الشاعر لم يفعل ذلك.
أمكنة بلا هوية، أشبه بجسم لغوي جاهز لحمل الأفكار
بالعودة إلى مؤسِّسات القصيدة، فإننا نلاحظ أنّ المناخ الذي يجترحه الشاعر ذو أبعادٍ تخيلية كلاسيكية يمكن تتبّع جذورها التي تذكّرنا بالمزاج الرومانسي لشعر التفعيلة العراقي عند تجارب الروّاد. فنجد مثلاً صوراً عن مكان سحريّ قد يندر وجوده في محيط الشاعر المكانيّ، لكنّه يتوفّر كجسم لغوي جاهز لحمل الأفكار الشعرية التي يقدّمها، مثل صورة الكوخ المطلّ على النهر تحت ضوء القمر في ليلٍ ساحر، والذي يرد في قصائد عديدة. "في وسط الغابةِ، شجرةٌ، تحملُ قمراً، في القمر شبّاكٌ يطلُّ على العالم"، وفي قصيدة أُخرى: "لمحنا قطرة ضوءٍ من الكوخ المطلّ على النهر، سماءُ الشمال غافيةٌ في حُضنِ العشب اللامع".
هذه عناصر مكانية لا تحمل وجوداً فيزيقياً ملموساً من شأنه إثارة أحاسيس غربة أو انتماء أو نفور في نفس الشاعر ــ وهذا ما نجده فعلياً في معظم القصائد ــ بل هي تصوّرات مطلقة لا تحمل ذاكرة انفعالية ولا تأريخية، حيث يرد ذكر مفردة نهر 17 مرّة دون أن يكون لأي من هذه الأنهار ملامح أو أسماء أو تاريخ باستثناء "نهر الفولغا"، وهو عنوان أحد القصائد، لكنّه أيضا لا يظهر في متن القصيدة بأيّة صفة خصوصية تميّزه عن فكرة النهر المطلقة. لذا، قد تشي هذه الظاهرة بانعدام العلاقة بين الشاعر ومكانه خارج القصيدة كنوع من عدم تقبُّل شكل المكان الحالي وآثاره، سواء كانت سياسية أو اجتماعية. وفي الوقت نفسه قد تعكس هذه الظاهرة علاقة بين الشاعر ومكانه داخل القصيدة، وهو مكان يحتمل أن يكون طللاً يستحقّ الرثاء، وقد يكون هو نفسه العالم الذي يغنّي الشاعر لنهايته أُغنية حزينة يرفض من خلالها شكل العالم الراهن.
"في الجاهليةِ
كانت الصحراء خطوةً
والحبُّ عطشاً
والمكاتيبُ سلوةً
والقُبلة نذراً
أما الآن
فالهواتفُ النقّالة أفسدت كل شيء".
تبيّن المجموعة قدرة لا يمكن إنكارها في صناعة الصور الشعرية، وهي في غالبيتها صورٌ بأفكار بسيطة تبدو سهلة لكنّ صعوبتها تكمن في أنها تحوي روح المغامرة وترجح فيها كفّة العفوية على كفّة الصنعة، يتّضح ذلك في طول الجملة التي تقترب إلى حد كبير من تراكيب جمل شعر التفعيلة، وبالإمكان ملاحظة أنها مدفوعة بحافز موسيقي. وكذلك المبالغة في تعدّد النعوت والتشبيهات المباشرة دون اللجوء إلى إنشاء صورة شعرية مركّبة تتطلب اشتراطات الانزياح اللغوي أو المعنوي. وبهذه الطريقة استطاع الشاعر أن يُجنّب نفسه الوقوع في فخّ قصيدة المفارقة التي تتّسم غالباً بفقر الأفكار وتحاول افتعال دهشة كاريكاتيرية مصطنعة.
"الهمّ يدور في رأسي مثل طواحين الهواء
حاملاً الدخان في صدري، منذ عهد النخّاسين.
أبكي كثيراً
على امرأة تُباعُ في السوق
ولا أستطيع أن أكونَ إلهاً
لِأُحرِّرَها".
* شاعر من العراق