لا تقتصر النتائج البحثية التي يتوصّل إليها الباحث السوري حسّان عبّاس ــ الذي غادرنا يوم الأحد (1955 ـ 2021) ــ في كتاب "الجسد في رواية الحرب السورية"، الصادر حديثاً عن منشورات "المعهد الفرنسي للشرق الأدنى"، على أدب الحرب السوري. فرغم أن الدراسة تشمل، بشكل أساسيّ، 15 عملاً روائياً بنَتْ حكاياتها على أرضية الحرب في سورية، إلّا أنّ الخلاصات التي يقف عليها عبّاس في مجال النقد الأدبي تمتدّ لتشمل الأسلوبيّات الشعرية، وقاموس اللغويات الأدبية العربيّة في التعامل مع الجسد نصّياً.
يفتتح المؤلف كتابه بالتوضيح: "لا أدب بدون جسد، بدون أجساد، ما دام الأدب يحكي، يروي، حكاياتٍ تحتاج إلى فاعلين لا يمكنهم إلّا أن يتمثّلوا بوجود مادّي". يذكّرنا المؤلّف بصورة الجسد كما تفرضه أو تريده الثقافات المهيمنة، التي ترسمه كالقرين المبتذل، وتفرض الجسد الملحمي الذي يذوب فيه جسد الفرد لصالح جسد الجماعة. إنّها، بعبارة أُخرى، صورةٌ للجسد المقموع، وخصوصاً في ما يتعلّق بحرّيّته الجنسية. هنا، يتناول عبّاس مجموعةً من الأعمال الأدبية السورية التي قاربت التابو الجنسي، ومنها بعض أشعار نزار قباني، وروايات، مثل "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر (1984)، و"دار المتعة" لوليد إخلاصي (1991)، و"اختبار الحواس"، لعلي عبد الله سعيد (1992)، إضافة إلى أعمال مسرحية، مثل "الاغتصاب" (1990) و"منمنمات تاريخية" (1994) لسعد الله ونوس.
ثنائيات متقابلة
مع انطلاقة الثورة السورية، عام 2011، دخلت صورة الجسد في مسارين متوازيين، وإن كانا لا يخلوان من التناقض. مسارٌ ملحميّ يجمع الأجساد المختلفة في كتلة واحدة، بحيث تشترك بحكاية واحدة، وفعالية واحدة، ومصير واحد؛ ومسار فرداني ينكمش فيه الجسد إلى حدوده الفردية ليصوغ حكايته الخاصّة، المستقلّة. الجسد الملحمي يتمثّل في المظاهرات والاعتصامات والتجمعات الشعبية، أما الجسد الفردي، فيتمثّل في الجسد المعذّب في المعتقلات.
صورتان للجسد: ملحمي للمظاهرات، ومعذّب في المعتقلات
يقسم الباحث دراسته لتمثّلات الجسد أدبياً إلى الخصائص المادّية المتعلقة بالمظهر العام الممنوح للشخصيات، والخصائص اللامادية المتعلقة بالبنية الداخلية للشخصيات. في محور يحمل عنوان "البدانة والنحول"، يستخلص عبّاس أن الكثير من الروايات تُطبّق نوعاً من التصنيف الذي يربط بين حجم جسد الشخصية وسلوكياتها. أي أنها تقوم بعملية مماهاة بين المظهر الفيزيائي للجسد وقيَم إنسانية/ أخلاقية للشخصيات: "ممّا يشكل تنميطاً مسبقاً للأجساد، يجعل من الضخامة الجسدية، التي يعبّر عنها بصفتي البدانة والسمنة أحياناً، صفة تكاد تكون غالبةً للشخصية السلبية، الشريرة، العدوة، فاقدة الأهمية، المنتمية إلى الموقع المناقض للموقع الذي تحتله الشخصيات التي يبدي الكاتب تعاطفاً أو تضامناً معها، والتي تَظهر من جهتها نحيلة وضعيفة ولطيفة"، كما هو الحال في روايات مثل "الذئاب لا تنسى"، للينا هويان الحسن، و"مفقود" لحيدر حيدر.
أمّا في رواية "المشاءة"، لسمر يزبك، فنجد مقابلة مباشرة بين الضخامة والنحول في مشهد واحد يَروي العلاقة بين ضحيّة وجلّاد. الضحيّة شابٌّ يعتقله عناصر حاجز أمنيّ، والجلّاد هو هؤلاء العناصر. الضحيّة الشاب نحيل، بينما رجال الأمن ضِخام البُنية. وفي رواية "بانسيون مريم"، لنبيل الملحم، تكون الشخصيات الأساسية في الرواية ذات أجساد ضعيفة أو مريضة أو مشوهة؛ أما الشخصيات الثانوية، فأجسادها، في الأغلب، بدينة.
يتكرّر الربط بين هيئة البدَن والقيَم الأخلاقية في محور يخصّصه الباحث السوري لمسألة العضلات المنفوخة والعضلات المفتولة، حيث يلحظ أن الشخصيات التي تتكلّم الروايات عن عضلاتها هي شخصيات ذكورية، تحكمها ثنائية العضلات المفتولة، القاسية، ذات الدلالة الإيجابية غالباً، من ناحية، والعضلات المنفوخة، من ناحية ثانية، وهي ذات دلالة سلبية بشكل عام. في "الموت عمل شاق"، لخالد خليفة، تُظهر شخصيّة حسين شيئاً من التفرّد والعنفوان والتمرّد على السُلطة الأبوية، يُخرجها من وضع الخضوع إلى حالة المقاومة، ما يمنحها امتيازَ أن تنعم بعضلاته مفتولة. وفي "الخائفون"، لديمة ونوس، يتميّز نسيم ــ الشاب الثلاثيني والشخصية الإشكالية التي تجسّد الضحية المثالية للسلطات الحاكمة في سورية ــ بجسد جذّاب ومثير، ذي عضلات مفتولة وقاسية. أما في "السوريون الأعداء"، لفواز حداد، و"أيام في بابا عمرو"، لعبد الله مكسور، فتتّسم أجساد الشبيحة أو المعتدين بالعضلات المنفوخة.
وإذا كانت صفتا البدانة والنحول مرتبطتين ببُنية الجسد الخارجية، فإن صفتي الهشاشة والضعف ترتبطان ببُنيته الداخلية. ففي "بانسيون مريم"، يرسم نبيل الملحم خارطة جسدية بالغة الدلالة لشخصيات الرواية: الأجساد البدينة للشخصيات الثانوية والكومبارس، والأجساد الضعيفة هي أجساد سكّان البانسيون بالدرجة الأولى. يعلّق حسن عبّاس: "ليست الأجساد في هذه الرواية بريئة، بل يمكن القول إنها هي الشخصيات الجوهرية، وما شخصيات الرواية سوى ذرائع لوجودها. بمعنى آخر، يبدو هنا أن الروائي وضع الأجساد أولاً، ثم ألبسها ثياباً وأسماء وليس العكس، في أسلوبية لا نجدها، على الأقل بهذه الدرجة من الوضوح، في كثير من الروايات".
كلام العيون واللّحى
يركّز البحث على دراسة الوجوه كعنصر رئيس في تمثّل الجسد في الروايات، وذلك من خلال التركيز على عنصرين اثنين من العناصر الوجهية: العيون واللّحى. تستوقفنا، بالدرجة الأولى، الرابطة التي تقيمها الروايات بين العين والأفعال المتعلّقة بالضوء، في إشارة مجازية إلى مجموعة من الصفات الإيجابية لدى الشخص الموسوم، ومنها اللمعان، والتألّق، والإشعاع. في "الموت عمل شاق" لخالد خليفة، تظهر العيون كعضو نبيل يحضر من خلاله الجسد المقاوم الرافض للوضعيات المحبطة. وترسم "بانسيون مريم"، لنبيل الملحم، خارطة للعيون تحاكي في انفعالاتها الوضع الذي أوجدته الانتفاضة في البلاد، لتصبح عيون الشخصيات كمرآة للواقع السوري.
يربط العديد من الروائيين بين الهيئة البدنية والقيم الأخلاقية
تظهر اللّحى في إشارة إلى الإسلاميين في "السوريون الأعداء"، لفواز حداد، وترمز إلى الشبيحة رواية "أيام في بابا عمرو"، لعبد الله مكسور. أما في رواية "الذين مسّهم السحر"، لروزا ياسين حسن، فترمز الكاتبة إلى أسلَمَة المعارضة عبر إرخاء اللّحى، حيث نقرأ حواراً بين مقاتلَيْن يناقشان حال التسلح لدى فصائل المعارضة حول مدينة حلب، ونتبيّن منه أن الدعم لا يأتي إلى الثوار الحقيقيين وإنما إلى الإسلاميين، فيقول أحدهما ساخراً: "علينا أن نربّي لحانا ونحلق شواربنا كي يأتينا الدعم".
أنسنةُ الجسد وحيْوَنته
تحت عنوان "الجسد المُحَيوَن"، يقدم الكتاب لتقنيّتي الأنسنة والحيونة. في رواية "الذئاب لا تنسى"، للينا هويان الحسن، تظهر كائنات البادية الطبيعية من حيوانات وجنّ كحوامل طبيعية للعواطف والمشاعر الإنسانية، متفوّقةً على البشر الذين أفقدتهم السلطة والحرب إنسانيّتهم. بينما، في تقنيّة مُقابلة، تشكّل رواية "نزوح مريم"، لمحمود حسن الجاسم، منجماً ثريّاً لأمثلة التحويلات التي يمارسها الروائي على الشخصيات البشرية لمنحها صفات أو هيئات حيوانيّة تساعده في رسم عوالم روايته. وحول رواية "الذين مسّهم السحر"، لروزا ياسين حسن، يكتب عبّاس: "تُظهر لنا خارطة الكلْبَنة ــ أي منح الشخصيات الإنسانية صفات الكلب ــ في هذه الرواية أنّ السوريين، في صراعهم السياسي والعسكري، قد استخدموا مخزونهم الثقافي المشترك، متمثلاً هنا بالرمزية الأخلاقية الدونية للكلاب، سلاحاً يوجهه كل فريق إلى الفريق الذي يواجهه". ويشير إلى أنّ الروائية تستحضر صورتين جسديّتين للكلب: "صورة الجلّاد المتوحّش، وصورة الضحيّة الذليلة. إنّه استخدام معنويّ، لا مادّي، لصورة نمطيّة مُسبقة مُعمّمة في أذهان الناس، هي الصورة اللاأخلاقية للكلب".
أرشيف الجثث
يخصّص المؤلّف المحور الأخير من كتابه لدراسة "الجثة أو الجسد الميت"، فيُشبّه رواية الحرب السورية بالمقبرة الجماعية، إذ تكاد لا تخلو رواية من مشاهد الجثث أو من ذِكرها. وتظهر الأجساد الميتة والجثث في روايات الحرب كخلفية ذات دلالة أو كمشهد عابر في رسم الواقع. رواية "الذئاب لا تنسى"، للينا هويان الحسن، تُسهب في وصف الأشلاء والجثث: "أشلاء، كلّ شيء يمكن أن يتفتّت بلحظة ويتحوّل إلى أشلاء". ونجد في رواية "موسم سقوط الفراشات"، لعتاب شبيب، أرشيفاً منوّعاً من الجثث ذات الحكايات الفريدة. كما يدرس المؤلف مفهوم "التجثّث" ــ أي التحوّل من جسد حيّ إلى جثة ــ في عدد من الروايات، أبرزها "الموت عمل شاق" لخالد خليفة، والتي يُقابل فيها الروائيّ بين تفسّخ الجثّة وخراب سورية، بفعل الحرب القائمة، مستخدماً الجسد كمعادل رمزيّ مباشر لسورية.