القوس الحجري
هذا القوس الحجري رأى نصف الموتى.
هذا الليل مليء بمعاطف الجنود الذاهبين إلى الحرب.
هذا الرجل يداه في جيبيه وزلزلة الحبرة في قلبه، حزن ثقيل في الهواء.
هذه المرأة، ترتدُّ التفاتتُها من على سور عالٍ تضيئُه العتمة.
الأيدي التي تلوّح بالوداع للجنود، تزيحُ قليلاً رائحة الموت.
النخلات وعراجينها العالية، ستذهب أيضاً معهم وتنزف معهم.
القرية البعيدة حصاةٌ تتقلّب في الريح، دخان ورمل وجبل هرِمٌ دميم.
لن يجرحَ الكلامُ نوافذ المنازل المُقفلة، فقط كتفا الرجل ستنحنيان قليلاً.
كيف تعيد حكاية الواقف على الكثيب؟
كيف تعيد حكاية بائع التذاكر في "سينما الرشيد"؟
كيف تعيد حكاية شهقة الصبية التي سقطت بين قدمي الشرطي؟
كيف تعيد حكاية صهيل الخيل التي ركضت بحثاً عن ريح قِبلي لا ترحم؟
■ ■ ■
تشريح الألم
الحياة يمُكن القبض عليها بتحديقة واحدة،
إلّا الألم:
سريعٌ مثل عاصفة رعدية،
خاطفٌ مثل برق،
حاملُ هموم مثل عامل ميناء،
صموتٌ مثل ساعةِ يد،
عبوسٌ مثل حارس مرمى،
طمّاعٌ مثل عميد بلدية،
ثرثارٌ مثل معلّق رياضي،
سارقٌ مثل رئيسِ وزراء،
غريبٌ مثل نبي،
وقاتلٌ مثلنا جميعاً.
■ ■ ■
عن الاشتباكات المسلّحة ليلة البارحة في صبراتة وهذا الصباح
صوت الكلاشنيكوف،
يأتي كأنه سنان رمح،
مدبّب قصير الأنفاس.
صوتُ مدفع الآر بي جي،
يأتي كأنه اندفاعة دلفين إلى الفضاء العالي،
ثم يتريّث قليلاً ليترك لقطرات الماء أن تنزلق على مهل.
صوت مدفع 23،
يأتي كأنه ضربة ميسي لكرة القدم في قطر 2022،
دائريٌّ،
سريعٌ،
فخمٌ.
لكنّنا على طاولة الإفطار،
نختلف، أيّ أسلحة استعمل المتقاتلون،
عن أيّ شيء تقاتلوا،
وعن مكان الاقتتال!
نذهب إلى الحيطان الزرقاء،
نواصل تناول "السفنز" بالرُّبّ والعسل حسب الرغبة!
إنها الجمعة،
فيها ساعة إجابة!
■ ■ ■
إلى أبوعجيلة مسعود*
الجرح لا يُكلّم صاحبه،
حسبه أن يأخذه إلى درب مُتربٍ،
مرّت به إبلٌ عجفاء، وأحذية عساكر قُساة.
للجرح ذاكرة، لكنها بلا ظلال،
فارغة كساحة شهداء في بلادٍ ملعونة.
لا هذه الأسوار،
لا هذه الثكنات،
لا هذه الوجوه المعطّرة الناعمة للحُكّام،
ولا القناصل الأجانب،
يُمكنها منحُك نوماً هانئاً واحداً!
كن دائماً جاهزاً "لقفزة الساعة الواحدة"** نحو الموت!
* أبوعجيلة مسعود: ضابط ليبي، قامت حكومة الوحدة الوطنية في طرابلس بتسليمه إلى الحكومة الأميركية.
** قفزة الساعة الواحدة: مقطوعة جاز كتبها كونت بيسي، عام 1937.
■ ■ ■
المجنّد بِلْعيد
وحيداً
في ظُلمة الليل البارد
تحرسُ القتلة
تحرسُ انعكاس النبيذ في كأس الكريستال
لا تُغرق نفسك في حزن ثقيل
دع قريتك المُهملة تقترب
دع قلبك يرى عميقاً
صمت أهلها، شجرها، أسوارها...
في هذا الليل الأخرس
حجر أملسُ
خطّان من عتمة بيضاء
جمرٌ على اللّبَان الظِّفاري
شجىً على قرّاصات عجين
باب يفتح ثم يقفل
غناءٌ قديم يتسرّب
ضوء قمر كامل يتلصّص
سرير به مسّ شديد
■ ■ ■
كانتيرة*
وأنا أستمع إلى توم ييتس يغنّي:
"صورة في إطار"، رأيتُ صورته، المسلّح
في كانتيرة بيضاء ملطّخة بشحم الذخيرة.
لم تكن الشمس تصعد زرقاء ذهبية فوق البيانو.
كانت في الشارع جثثٌ وعربات مُجنزرة وزجاجات جاك دانيال.
لا نجوم تلمع فوقها، لا صدر أمّ يحضنها
الكانتيرة بلا أكتاف وبلا ذاكرة،
حسبها أن تُبلى، أن تُطرح أرضاً
في خلاء مُوحش أو فوق جسد نسي كيف يموت!
*كانتيرة: لباس داخلي قطني رجالي، بلا أكمام
■ ■ ■
هل حقّاً
هل حقّاً كنت تظنّ أنك قادر على قيادة قومك بالموسيقا؟
هل تبدأ بصوت القبّرة أم ستجمع حفيف الأوراق من الغابة؟
هل ستعيد عزف اللحن الغريب الذي أتاك في الحلم أم ستعزف لحنَين في نفس الوقت:
واحداً من جهة الغرب وواحداً من جهة الشرق؟
هل حقّاً ستزيح بوجهك بعيداً عن ذاك اللحن الشجي الذي كفّنته ساحرات الجنوب بالفضّة؟
لن أفعل أيّ شيء ممّا ذكرت! سآخذ غربال أمّي من بيتنا الطيني، وحفنة رمل تلمع مثل الذهب من دهان مرزق، ثم قبضتين من نعناع قمينس، وقبضة كبيرة من قرنفل طرابلس، أغمسها جميعها في بحر صبراتة، وأطرحها على الشطّ سبع ليالٍ لا يزورها القمر، ثم أتركها على سطح زاوية شيخ نزيل مسلاتة أربعين يوماً، إلى أن تجف، فأجعلها مسحوقاً أنثره في فضاء لا حدّ له.
■ ■ ■
قصيدتي الوحيدة
صرتُ أدحرج قصيدتي الوحيدة من سنة إلى سنة،
أقطف غصناً من هنا وزهرة من هنا،
أظفر شعرها، وأفتح شبّاكها على سماء مُقمرة.
في العشيّات النديات،
نجلس أنا وكلبتي وسلحفاتي في ظلّها،
مثل حمقى ينتظرون قطاراً لن يجيء
أو مثل كمأ يتلصّص على شكعة برق في وادي الحصان!
■ ■ ■
أصوات وادي الهيرة
- ما هذه الأصوات في وادي الهيرة؟
- أصوات حجارة بعضها نسيها متحاربون قدامى وبعضها تبحث عن أجساد أنهكها الطليان والجوع، وبعضها تحلم بسنابل كان قد بلّلها مطر قديم، مطرٌ فقد ذاكرته وتاه في سفرتح الحمادة الحمراء!
- وماذا تفعل في الليل الموحش؟
- تتحوّل إلى ذئاب وقنافذ وكمأٍ مكنون.
- ومن يستر عيوبها ويمحو ذنوبها؟
- هل ترى ذلك الجبل الأجرد الأخرس؟ هو يفعل ذلك وأشياء أخرى لا يبوح بها!
■ ■ ■
أقرأ قصيدة
وأنا أقرأ قصيدة لسيرغي يسينين
عن الماء الحرّ المُنساب من ضفة النهر وعن الشجرة
أتذكّرُ شجرتي التي غرستُها ذات عام
الشجرة التي تزهر في الشتاء أزهاراً صفراء
الشجرة التي قطعها عامل البناء المصري وبنى فوقها مربوعة خارجية
التي دخلها المسلّحون ودنّسوا اللوحات المعلّقة على جدرانها
كان يزورها طائر ببقعة زرقاء صغيرة على رأسه ولا صوت له
يقف على غصن رقيق واضعاً صدره على البتلات الصفراء
شجنٌ كثيف يغمرني الآن
لا أعرف اسم شجرتي التي تزهر في الشتاء
■ ■ ■
حِملُ طفولتي
أحمل من طفولتي، منحدراً ترابياً، يفتح على أحراش
زيتون وصبار ووريدات مختلف ألوانها، وعناقيد سود.
أيّ رائحة ستأخذ منها؟
شميم صبية تتقافز في فستانها الأزرق.
يا لروعة ما تحمل من طفولتك!
■ ■ ■
أشياء
الأشياء التي هنا هي الأشياء التي هناك.
يسقط حجر على الماء، يرتجف الماء وترتجف الأسماك.
تجسّ الريح بأصابع الأبدية، أغصان الشجرة،
يتطاير زيتها، ينهنه سكينة السهوب.
طائر يحلّق في الفضاء، تنبسط الأجنحة وتنقبض،
الوقت واللحن يصعدان إلى أعلى علّيين.
* شاعر ومترجم ليبي من مواليد 1952