بدتِ الساحة الثقافية في قطر كأنها تصبّ جهدها لخدمة الثُّلث الأخير من العام المنقضي. كانت الشهور الثلاثة منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول، حتى آخر يوم في المونديال 18 ديسمبر/كانون الأول، سوقاً ثقافية مُزدحمة غير مسبوقة في تاريخ البلاد.
وبالطبع ستكون السمة الفُرجوية غالبة، كلّما اقتربت أيام المونديال، التي توافرت فيها المهرجانات، ومن أبرزها: "المحامل التقليدية" في مساحة واسعة على الواجهة البحرية لكتارا، و"درب الساعي" المهرجان التراثي الشهير، وفرق الرقص والغناء من أنحاء العالم، إضافة إلى عشرات المعارض من الفنون البصرية والأزياء والحِرف، تقاسمتها "هيئة المتاحف"، و"كتارا"، و"مشيرب".
إلى ذلك، حضرت العروض الكرنفالية على برّ وبحر الدوحة، والموسيقى السيمفونية، وأبرزها سيمفونية "وردة الصحراء"، والمسرح الغنائي، ومنه "زفاف مونسون"، كذلك السينما في عروض "مؤسسة الدوحة للأفلام"، بما سمّته "تجربة الدوحة للأفلام"، وافتتاح أكبر لوحة تشكيلية في العالم رُسمت على "استاد جامعة قطر"، ودخلت موسوعة غينيس.
متحفان قادمان
كان شهر أكتوبر/تشرين الأول الأنسب للإعلان عن المشاريع الثقافية الضخمة، قبل أن تتحوّل الدوحة الهادئة إلى ساحة عالمية، تختلط فيها اللغات والثقافات مع وفود مليون و400 ألف زائر. لذلك سنجد "متاحف قطر" تختار هذا الشهر للكشف عن مشروعين سيضمان متحفين الأوّل: "متحف لوسيل" المقرر بَدْء العمل فيه عام 2023، وسيكون مخصّصاً لمقتنيات قطر من الفنون الاستشراقية. وعليه، جاء المعرض "عالم يجمعنا" الذي أُقيم في "غاليري الرواق"، على جانب "حديقة متحف الفن الإسلامي"، وهو على اتساعه يبقى عينة صغيرة من المتحف المُقبل على جزيرة المها قبالة لوسيل.
تصدّر "المركز العربي" بأنشطته مشهد الثقافة العربية
في حين بقي "متحف المستشرقين"، مفتوحاً طوال سنوات فقط للدعوات الخاصة للمهتمين، قبل أن يتوارى في الظل، ليعلن أخيراً عن ذهابه إلى حَيّزٍ جديد متخلّياً عن اسم "المستشرقين". وفي هذا وجاهة، إذ كان الاسم الأول يحيل إلى فنون فئة فنية، تختلف زوايا النظر بشأنها، بينما يفتح المتحف الجديد مساحة للفنون الأوروبية وغيرها في العالم العربي، والشرق الأوسط عموماً.
أما المتحف الآخر "مطاحن الفن" فقد حُدّد موعد تدشينه في 2030. وما كان من "هيئة متاحف قطر"، إلّا أن تستثمر عام المونديال للإعلان عنه، عبر معرضٍ تعريفي أقيم في مقرِّ المطاحن، ذات الأربع والستين صومعة، والتي كانت منذ تسعينيات القرن الماضي تزوِّد قطر بالقمح، ولكنها أقفلت وأُنشِئت بدلاً منها صوامع جديدة، فصارت مشروعاً فنياً يشغل المكان دون التخلّي عن اسمه القديم، على غرار "مطافئ: مقرّ الفنانين"، وقد كان من قبلُ مقراً للدفاع المدني، فأُعيد تأهيله عام 2014 ليصبح ساحة فنون تشكيلية.
هذا المتحف المنتظر سيضمُّ حصيلة أربعة عقود جَمعت فيها قطر مقتنياتٍ من الفنون العالمية الحديثة والمعاصرة، منذ 1850 حتى اليوم، ستكون جاهزة للعرض على مساحة 80 ألف متر مربع، بما في ذلك 23000 متر مربع من مساحات العرض.
رياضة وسياسة ومجتمع
وفي الأول من الشهر ذاته، كان أيضاً مجال البحث الأكاديمي، وهو يَستبق ويقرأ على مهل "الرياضة والسياسة والمجتمع"، الندوة التي عقدها "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات". لكن مع حضور المونديال الطاغي وَجد 28 باحثاً وباحثة أنفسهم منشغلين بالخصوص في كرة القدم، عبر تِسع جلسات على مدار يومين.
وضعت خطة لتدشين مجموعة متاحف أبرزها "مطاحن الفن"
وهي سانحة نادرة في العالم العربي الذي لا تعثُر فيه على حَفْرٍ معرفي، ورصد ميداني جاد ومتواصل للأثر الذي تُنتجه الرياضات بالجُملة، وكرة القدم في مقدّمتها، التي لا تَنازُع في شعبيتها. "كيف تعاملت النظريات الوضعية مع ظاهرة الرياضة؟"، و"من هم الألتراس؟"، و"كيف يستثمر السياسي ويستغلّ جماهير الكرة؟"، و"كيف يجد هؤلاء في الملعب مجال تعبير أوسع من الشوارع والميادين التي يمكن ضبطها؟"، هذه بعضٌ من أسئلة طرحتها الندوة، وأسّست عليها مشروعاً نظرياً لافتاً.
الوحيد بين المشاريع الثقافية الرياضية جاء مبكّراً مطلع العام، ألا وهو "المتحف الأولمبي والرياضي 1 - 2 - 3"، الذي دُشن في مارس/آذار 2022، ويسرد حكاية الرياضة في ثقافات الشعوب على مساحَة تُقارِب 19 ألف متر مربّع، ما يجعله أحد أكبر المتاحف الأولمبية في العالم.
سوى ذلك، حافظت برامج المؤسسات الثقافية على وتيرة معتادة في البلاد، تستمرّ حتى الشهر السادس، ثم تنحسر إلى الحدود الدنيا في الشهرين السابع والثامن، بسبب موسم الإجازات، وارتفاع درجة الحرارة والرطوبة.
غير أن الصيف الذي سبق المونديال كان مختلفاً عن الأصياف السابقة، فقد كان أشبه بترقُّبٍ واستعداد على وقع العدّ التنازلي، وصار الحيّز العام من ساحات وشوارع وخطوط مترو كأنها تؤدّي إلى الاستادات الثمانية أو تخرج منها.
ثلاثة ملامح
ثلاثة ملامح برزت لأوّل مرّة في خطط وزارة الثقافة القطرية الربع الأول من العام، ففي شهر مارس/آذار، أطلقت "موسم الندوات" على مدار أسبوعين، بالشراكة مع "جامعة قطر"، و"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، بدأ بندوة "الهويات إنسانية أم محلية؟ الثقافة وتعدّد الهويات في الخليج"، استضافها "المركز العربي" يوم 17 من مارس/آذار 2022.
رأى موقع "القدس: القصة الكاملة" النور بعد سنوات من العمل
ودشنت الدورة الرابعة والثلاثين لـ"مهرجان الدوحة المسرحي" بعد غياب دام خمس سنوات، بالتزامن مع مرور نصف قرن على بدء الحركة المسرحية رسمياً في قطر. ويستذكر مسرحيون من مشارب عديدة ما يعدونه الزمن الذهبي للمسرح في السبعينيات والثمانينيات، ثم تراجعه واختصار فرقه الأربع إلى فرقتين.
وافتتحت الوزارة الدورة الأولى من "معرض رمضان للكتاب" في شهر إبريل/نيسان، بإحدى ساحات سوق واقف، وهو محلّي الطابع ضمن أنشطة الأيام الرمضانية، بعد انتهاء الحدث الثقافي الدولي الذي تديره سنوياً متمثّلاً في "معرض الكتاب" يناير/كانون الثاني.
موقع القدس
أما "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، فظلّ محافظاً على تصدُّره عربياً قائمة الإصدارات والمجلّات المُحكّمة وجدول فعالياته من الندوات والحلقات النقاشية. ومع انتصاف يونيو/حزيران، كنّا على موعد مع إطلاق الموقع الإلكتروني "القدس: القصة كاملة" Jerusalem Story، الذي بدأ العمل عليه منذ نحو ثلاث سنوات، وأنجزه تصميماً ومحتوى فريقٌ من اثني عشر باحثاً، إضافة إلى المتعاونين والمتطوّعين. في إطار "محاضرة النكبة السنوية"، التي ينظّمها كلٌ من "المركز العربي" و"مؤسسة الدراسات الفلسطينية".