في العام الذي ودعناه أمس، أضاف الصهاينة إلى رصيد المنطقة العربية حرباً جديدة، ما ميّزها عن سواها من الحروب، أنّها حرب إبادة، أو بالحد الأدنى حربٌ من أجل جعل الحياة غير ممكنة في غزّة.
ولئن كان ثمّة من يعتقد أنّ هذه الحرب تدور في إطار السياسة، وأنّها مقتصرة على حصيلة العام السياسية، إلّا أنّ تأمُّلاً لردّ فعل عدد من المؤسَّسات الثقافية الغربية، سرعان ما يجعل المرء يحسم الوجه الثقافي لهذه الإبادة. فالمطلوب إسرائيلياً ليس فقط إبادة وقتل الفلسطينيّين وتهجيرهم، بل نسف فكرة فلسطين في جوهرها.
في هذا العام، أضاف الصهاينة إلى ذاكرة الشعوب العربية مشاهد حيّة للتهجير والمجازر والقتل والعقاب الجماعي؛ وهي أمورٌ عندما تحدث في فلسطين، ينتاب المرء شعور بالتهديد المباشر، لأنّ الصهاينة يستهدفون الطفل بصفته طفلاً، يستهدفون الخُدّج بصفتهم خُدّجاً، يستهدفون المسعفين والأطبّاء والجرحى بصفتهم مسعفين وأطبّاءَ وجرحى. وهذا التهديد المباشر الذي ينتاب المرء، يجيء أساساً من الإجرام غير المعقول الذي يراه ماثلاً وصريحاً ومتحقّقاً أمامه على الشاشة.
ما ينبغي أن يبقى المرء مُصرّاً عليه هو أن يكون إنساناً
بهذه الصورة، نفهم أحاديث آباء وأمّهات بعيدين عن فلسطين بأنّهم رأوا في الطفل الفلسطيني طفلهم، لأنّ الصهاينة ظهروا بتلك الصلافة والوضوح بأنّهم يستهدفون الأطفال كلّهم ما لم يكونوا إسرائيليّين.
يُذهَل المرء، لا من الحرب لكونها حرباً، فالحروب جميعها فيها شيءٌ مشترك من تضييقٍ على الحياة ومن بتر للحياة؛ وإنّما يُذهل من صلافة الإجرام، المدعوم من دولٍ لطالما سَوّقت سياساتها أمام شعوبها والشعوب الأُخرى بأنّها مع حقوق الإنسان، وحقّ الشعوب في تقرير مصيرها. وهذه مقولة أميركية أساساً، وهي أحد المبادئ التي برّر بها الرئيس الأميركي وودرو ويلسون دخول بلاده الحرب العالمية الأُولى.
في حصيلة العام، يلمح المرء أنّ العالَم ينقسم إلى معسكرين، وربما هو هكذا منذ البدء. لكنّ حرب الإبادة التي تحمل هذا الوضوح وهذه الصلافة، تجعل انقسام العالم إلى معسكرين انقساماً مرئياً. لكنّهما ليسا معسكرين بالصورة التقليدية؛ فمَن يناصر فلسطين منتشر وموجود في أصقاع وثقافات العالم كلّها، ومن يشترك مع الصهاينة في إثم الحرب، منتشر وموجود حتى بين العرب أنفسهم، لاعتبارات شاقٌّ على المرء أن يسوّغها.
المؤكَّد أنّ الفارق الذي تمثّله فلسطين هو فارقٌ إنساني، إنّها أشبه بالنداء في ضمير أحرار العالم؛ بل يمكن أن يُحدث تأثير مَنْ هُم مِنْ غَير العرب فرقاً أكبر في الرأي العالمي، لأنّ موقفهم إلى جانب فلسطين، إلى جانب غزّة، محضُ إنساني، ونداءاتهم لوقف حرب الإبادة نداءات لإنقاذ الإنسانية نفسها.
كما ينتاب المرء الذي فُطِم على خطابات الإنسانية، شعورٌ أنّه موجودٌ في كذبة، أنّه يعيش في كذبة، أنّه يتوارث كذبة. لكن مع ذلك، أخالُ الصوابَ في أن نفصل القيمَ التي صدَّرها الغرب عن الغرب نفسه، لا أن نتيح لمعسكر الديكتاتوريات والقتل المباشر والتخريب المتعمَّد لحياة البشر وهدر مصائرهم ومستقبل عائلاتهم؛ أن يستثمر في خطابٍ يدين الحرية باعتبارها خطاباً غربياً، وبالمثل يدين حقّ الشعوب في تقرير مصيرها، ويدين مسائل من المفروض أنّها كقيم صارت مسلَّمات مثل الديمقراطية وتداول السلطة والعدالة الاجتماعية وغيرها.
فلسطين تضع المرء على المحكّ. والالتباس الذي يحصل ليس في انقسام العالم حيالها، فهو منقسم؛ وإنّما الالتباس في تعريف هذا الانقسام، في طبيعته، وفي تحديد ضروبه. وأخالُ أنّ ما يمكن أن ينقذ فلسطين، فكرةً ووطناً وشعباً، هو البعد الإنساني الذي تمثّله حكاية فلسطين، لا الأبعاد الدينية أو القومية على أهميتها، لأنَنا نحيا في عالمٍ كُلُّ شيءٍ فيهِ مُستباحٌ وإجرامي. وما ينبغي أن يبقى المرء مُصرّاً عليه؛ هو أن يكون إنساناً.
* روائي من سورية