يُقْرأُ كتابُ "الأغاني" كديوانٍ للشِّعْر والشُّعراء في "العصور الذهبية" للحضارة الإسلاميّة، ويُنظر إليه كأنطولوجيا شعريَّة تهتم بالغناء والمغنّين. لكنّ لهذه المَعْلَمَةُ مَدًى أوسعَ، إذ تُشكّل ميدانًا سوسيولوجيًّا تُختَبَر في تضاريسه فَرَضيّاتٌ حول ماضي المجتمعات الإسلاميّة ومنظومة العلاقات التي حَكمت مكوّناتِها، كما يمكن أن تكون وثيقةً تاريخٍ، إذا جَريْنا مع الرأي القائل إنّ الأدب ليس سوى انعكاسٍ لزَمَنه، يرتسم في أبنيته ما يمور في المجتمع من قيمٍ وتمثّلات.
وضمن هذه المقاربة الثانية، صدر كتاب "صورة المجتمع العربيّ الإسلاميّ من خلال كُتب أخبار الأدَب"، مؤخّرًا، عن "المَجمَع التونسيّ للعُلوم والآداب والفنون"، بِـ"بيْتِ الحكمة"، وفيه يُدافع الباحث التونسي حمّادي صمّود (1941)، عن طرح مَفاده أنَّ المُجتمعات الإسلاميّة، من بداية نزول الوحي حتّى القرن الرّابع هجريًّا، كانت، وفي العديد من مَناحيها ومظاهرها، غير مُتطابقةٍ مع المبادئ العامة للدّين، كما حدّدها فقهاء الإسلام، ولم تَكن تلك الأجيال، كما يصوّرها دُعاة السلفيّة في أيامنا، على ذلك القدْر من القَداسَة والوَرَع، بل كانت خاضعةً، كسائر أجيال بني الإنسان على مرِّ التاريخ، لنواميس الصراع بين إرادة الحياة وإكراه القِيَم.
إلا أن صمّود لا يعودُ إلى ما حبَّره المؤرّخون الرسميّون، بل إلى كتابٍ لم يَكن غرضه المباشر التأريخ الاجتماعيّ، "كتابِ الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني (897 - 967)، بما هو "مُدوَّنة ثمينة عن حياة الناس وما كان يقوم بينهم من العلاقات وضُروب المعاملات ويَملأ عوالِمَهم من المُعتَقدات"، حسب عبارة المؤلف.
يُنظر لـ"الأغاني" كأنطولوجيا شعريَّة تهتم بالغناء والمغنّين
تَتَألَّف هذه الدراسة من جُزأيْن مُتكامليْن: أولهما سِلسلةٌ من "المقدمات" هي بمثابة مَبادئَ نَظريَّة حَكمت هذه المباحث. وتَتَّصل بتحديد المفاهيم المُستخدمة ومنهجيّة الدّرس. ففي المقدّمة الأولى، ذَكَّر صَمّود بغاية البحثِ ومراميه وهي البَرهَنَة على أنَّ "التحوّلات الكُبرى، مهما كانتْ وَلْتَكُن رُسَلاً وأديانًا، لا تُحدِثُ في المجتمعات التي جَدَّت فيها انقلابًا كليًّا".
وخَصَّصَ المقدمةَ الثانية لتبرير تركيزه على صورة المجتمع والتمثّل الذي يُحاكُ عنه، لا على المجتمع العربيّ في حدّ ذاته، أيْ: مَجموع الأبنية والظواهر التي هي موضوع الدِّراسات الاجتماعيّة والتاريخيّة. وخُصِّصتْ ثالثُ المُقدّمات لوَصف مُدوّنة الأخبار الأدبيّة وإبراز خَصائصها وإمكان أن يُغنيَ المتأخّر منها عن السابق. والمقصودُ بالمُدوَّنَة تلك التي اشتغل عليها، أي: كتاب الأغاني كنص مرجعيّ للدراسة. وفي المُقدّمة الأخيرة، يَعرض إلى خصائص هذه المَعْلَمة الأسلوبيّة والمَعرفيّة وبِنيَتها ووَعي صاحبِها، الأصفهاني، بالعلاقة بين أقسامهِا وبمصادر الأخبار عنده وكيفية تعامله معها.
وأما ثاني الأقْسام، وهو الأوسع حَجمًا، فمزيجٌ من التحليل والنصّوص الشواهد، وُزِّعَتْ حَسبَ أربعة مَحاورَ: تناول في الأول منها المظاهرَ الحضاريّة والاجتماعيّة والفكريّة التي سادت في المجتمعات العربيّة - الإسلاميّة حتّى القرن الرابع للهجرة. وفي القسم الموالي، حَلَّل أبعادًا من مَكانة المَرأة، على اختلاف انتماءاتها، وعاجَ، في الثالث، على نماذجَ من سلوك أولي الأمر وكيفيّة تَصريفهم لشؤون المَحكومين وما انعقد بينهم من العلاقات. وخصّصَ الفصلَ الأخير لمواقف الناس من الغناء، ولا سيما مَن كان منهم في ركابِ المُؤسَّسَة الدينيّة.
في مَطلع كلّ قسمٍ، يحرّر صَمّود تقديمًا عن البعد المَدروس ويُعقُبه بنصٍّ توضيحيّ، يجسّدُ ذلكَ البُعد ويُجلّيه معتمدًا نظامَ التَّرقيم والإحالة. وكأنّما أراد بهذه المُزاوجَة أن يَدعَ النَصوصَ تَتَكَّلم بذاتها وتنطقَ بما كان في تلك المجتمعات من الظواهر والدوافع، حتّى يدركَ القارئ "الفرقَ بين ما تقولُه هذه النُّصوص الشَّواهدُ وما يَتَحَدّث به بعض النّاس اليوم عن تلك الفَترَة"، وما أسقَطوه عليها من هالات التقديس، متأوّلين إياها، فقط، حَسب مَقولتَيْ الحَلال والحَرام. وليس أصدقُ من هذه النصوص التلقائيّة في التأشير على نسبيّة القيم الناظمة لمسارات الناس في حلّهم وترحالهم.
بعيداً عن القراءات التي ترفع الماضي إلى مصافّ الكمال
وهكذا، بَذَلَ هذا الكتابُ نصوصًا عَزيزَة المَنال لقارِئ اليوم، الذي ما كان ليَظفَر بها أو بِنظائرها بيُسرٍ. وكأنه إعادة ترتيب لبعض مادّة كتاب "الأغاني" الضّخمَة، أجراها الباحثُ حَسب مَحاوِرَ مُنتَقاة، يَجمعها رابط دقيقٌ هو الصِّراع بين القيمة والواقع، بين تدفُّق نَبع الحياة وإكراه القاعدة، أكانت دينيّةً أم سياسيّة. والقارئ لا يُطالع هنا أخبارَ المُغنّينَ ومآثرَ الماضين، وإنما يعايُن أحوالَ مُجتمعات الحواضِر الإسلاميّة الكبرى من خلال شَبَكة مِحوريَّة، تَحكمها إشكاليّات السّلطة والجسد والمَعيش اليومي في اضطرابِهِ وبحثِهِ عن التوازن.
وهكذا، سيَرى أنَّ الحياة الاجتماعيّة هي، في كلّ زَمان ومكان، تدافعٌ بين قوى الخير والشرّ، بين نداءات الذات التي لا تُقهر وسَعي السلطة الرسميّة، بخطابها الدينيّ وهالتها المقدّسة، إلى فرض معيارٍ أعلى في السلوك، قد يقتربُ منه الأفراد، في سَوْرَة انعتاقٍ خُلقيّ. وغالبًا، ما يَحيدون عَنه تلبيةً للدفين من الغرائز والنَّزَعات، وهي من الإنسان جوهُرُهُ الأصيل.
كما تُساهم مثل هذه الدّراسات في توضيع النَّظرة إلى التراث، أيْ مقاربته بموضوعيّة وحسٍّ نقديٍّ، فهي تكشف سلوكَه المجتمعيَّ على عِلّاته، وتظهر ما كان فيه من نزاعاتٍ ومعتقداتٍ، بعيدًا عن قِراءات التمجيد المُزَيِّفَة، التي ترفع الأجيالَ الأولى إلى مصافّ الكمال، فتُغَيِّبَ بعدَها البشريَّ وتزعم أنها التجسيد الأمثل للقيم المطلقة، وهو ما تُكذّبُه النصوص والأحداث.
ويَحقّ التساؤل هنا عن معايير اختيار المَحاور، وكلّها مُعضِلة، ذلك أنَّ وضعَ المرأة وعلاقة السلطة بالمجتمع والموقف من الفنّ، من مَسائل الخلافِ التي لا يُمكن لصورةٍ واحدة أن تَجمَع شتاتَها المترامي، ولا أن تحصرَها كوكبةٌ من النصوص، مهما كانت رَشاقَة معاييرها، فإذا غيَّرَنا هذه المحاور لَتَحَصَّلنا على صورة مناقضةٍ تمامًا، وذلكَ التّناقض والتوتّر هو حقيقة المَشهد. وعليه، قد يَكون الاقتصارُ على نظرة أحادية الجانب مَساسًا بتعقّد الحقيقة وتعدّديتها وتنائيتها، بِحُكم ما يَفصلنا عنها من غابِر القُرون.
وليس اختيارُ النّصوص بِبَريءٍ، فكلّ فَقرةٍ تهدف إلى دَعم مُصادَرات البَحْث، والتي هي بَداهاتٌ، إذ يعرف المتخصصون في الفقه أنّ تاريخَه هو تاريخ صراعه مع الواقع، ونكتفي بكتاب جوهانسن بابر، "المُحايَثَة في قانونٍ مُقَدَّس"، (إبريل/ نيسان 1999)، حيثُ بَرهن على أنَّ جَدليّة الواقع والنظريّة أو القيمة والمُحايثة هي ما يُشكّل هويَّة المجتمعات التي خَضَعَت للفقه الإسلاميّ، بل هي من مَفاتِيح فَهمه. ولم يَدّعِ أحدٌ تطابق تعاليم الدين مع الواقع، باستثناء ما جدَّ في العصر النبوي، والذي يؤكد القرآن ذاته أنه سعى إلى الكمال، بيد أنه عَجَزَ، أحيانًا، عن بلوغه. وأمّا ما تلاه من العصور، ولا سيما بعدَ الخلافة الرّاشدة (632 - 661)، فَلم تَخلُ، بشهادة الأوائل، من مثالبَ.
كما تظلُّ مَسألة مصداقيّة هذه النصوص وحجم "الحقيقة" التاريخيّة الثاوية فيها إشكالاً قائمًا، علمًا أنّها أخبارٌ أدبيّة، صيغت لتؤدي وظائف الإمتاع، أكثر من الإحالة على الواقع، ما يجعل التعامل معها محفوفًا بالخطر. وقد حاول صاحب كتاب "التفكير البلاغي عند العرب" (1984)، التخفيف من حدّة هذا الإشكال بتأكيد أنَّ تَحليلاتِهِ إنما تنصبُّ على "صورة" المجتمعات وما يُحاك عنها من التمثلات، ولكنّ ذلك لا يكفي في تشريع العَودة إليْها فقط، لنَسج تصوّر دقيق عن تلك المجتمعات.
خَبِرَ حمادي صمّود، وهو الأستاذ المقتدر الذي تخَرَّجت على يديه أجيال عديدة من الباحثين، النّصوصَ الأدبيَّة، طريفِها وتالدها. وما استنتجه من مَشروعه، الذي ينوي توسيعَه ليشملَ كتبَ الجاحظ، هو تصوّرٌ مختلف، يعاكس السّائدَ من دراسات المستعربين في الغرب ويشاكسها، وقد شُيّد على فهم حقيقي لعَربيّة نصوص الأخبار ومبانيها السرديّة ومضامينها. هذا الكتابُ لبنةٌ أولى، تحتاج إلى إتمامٍ ومكافحَةٍ ومصابرة حتى تبوح "الأغاني" بكل ما فيها من أطيافِ النغم.