في آخر الأخبار المرتبطة بحرب الإبادة التي يقوم بها قتلة الأطفال ضدَّ أهالي غزّة؛ أنَّ أميركيَّاً أحرق نفسه، وهو يصرخ "فلسطين حرَّة". وهو جندي في الجيش الأميركي، أحرق نفسه مرتدياً بزّته العسكرية. هذه خطوة اعتراض، عرفنا لحظةً مشابهة لها عندما أحرق الشاب التونسي محمد البوعزيزي نفسه. حرقُ النفْس، أقصى أشكال الاعتراض حتَّى في ذاكرة الشعوب العربية.
لكن هذا الاعتراض الصارخ، وصل إلينا من مكانٍ آخر، من مكانٍ بعيد، من مكانٍ تآمرت حكومته مع الصهيونية ضدَّ السردية العربية المرتبطة بفلسطين بالكامل. حتَّى إنَّ أميركا تبنَّت الوعد البريطاني بعد الحرب العالمية الثانية بتأمين وطنٍ لليهود، أو بكلمات أوضح؛ سرقة وطن آخرين، السطو على وطنٍ حرّ، كي تخفت عقدة الذنب الغربية تجاه اليهود من جهة - وربّما كي يُبعدوا اليهود عن مجتمعاتهم أسوةً بهتلر-، وكي تستمرّ السيطرة على المنطقة العربية، واستغلالها، واستلاب قرارها السياسي، وكي يستمرّ تفكُّكها، وارتهانها الاقتصادي والمعرفي. هذه نظرياتٌ لا يتوقّف الواقع عن تأكيدها. فعلى امتداد أشهر، تعجز البلدان العربية عن إيقاف الحرب.
إلّا أنَّ طائرات عربية أسقطت مساعدات على أهالي غزّة الذين ماتوا من القصف، وماتوا من الجوع. الطائرات العربية رمت الطعام فوق بيوت مهدَّمة، وهو مشهدٌ يستدعي التأمُّل الطويل والتعليق. لكنّ لساننا أخرس، وحناجرنا مقيّدة بالسلاسل.
عرفنا لحظةً مشابهة عندما أحرق البوعزيزي نفسه
مشهد آخر مرتبط بالطعام، أيضاً يأتي من أميركا، إذ نرى الرئيس الأميركي يأكل "الآيس كريم" وهو يتحدّث عن وقف إطلاق نار محتمل. يأكل "الآيس كريم" ويتحدّث في شأن حربٍ يشنُّها قتلةُ أطفالٍ ضدَّ أكثر من مليونَي إنسان في عقاب جماعي على عملية قامَ بها العشرات. وهذا التوصيف البارد لما حدث في السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر؛ هو سيناريو الحدّ الأدنى من استخدام الكلمات لقراءة تعقيدات الصراع. ومشهد الرئيس الأميركي يحتاج إلى تعليق، لكنني لا أستطيع أن أوفَّق فيه. ألا يصلح أن يضع العرب جميعاً، هذا المشهد أمام مشهد الطائرات العربية التي تلقي الطعام إلى أهالي غزّة. أليس المشهدان كلُّ يحمل تعليقاً على الآخر؟
من واقع الحرب، يمكنني أن أدعي القول؛ إنَّ الحرب تنتهي هنا، تبدأ كرامةً وتنتهي جوعاً. تبدأ بحثاً عن مجدٍ ما، عن انتصار، عن تحقيق شيء، وتنتهي بحثاً عن الأكل، عن كسرة خبز وعن رشفةِ ماء. مَنْ عاش الحرب يعرف هذا. يعرف أنَّ الحرب في لحظة تصيرُ مجرَّد استراق نومٍ من غير أن يقضَّ الجوعُ النائمَ، القصف يصبحُ تفصيلاً ثانوياً، الموتُ لا يعود يشغل المرء، بقدر ما يشغله الموتُ جوعاً، بقدر ما يشغله عجزه كإنسانٍ بدائي عن إيجاد ما يأكل، عن إيقاد نار، عن اصطياد طريدة. وقبل ذلك، عن حماية أطفاله.
أخالُ أنَّ المشاهد الثلاثة تنتمي إلى السُرْيالِيَّة، المذهب الفني المعروف بأنَّه "ما فوق الواقع"، خاصَّة إذا وضعت في كادر واحد، في رسمٍ جداري؛ حيث نرى جندياً أميركياً يحرق نفسه، وهو يتأمَّلُ مشهدين متقابلين أحدهما لطائرات عربية تلقي الطعام على بيوت مهدَّمة وآخر لرئيس يأكل "الآيس كريم" ويتحدّث عن احتمالية وقف القتل.
لكن حتى هذا التعليق النظري البارد، يرفضه المرء مهما كانت حناجره مقيّدة بالسلاسل. ببساطة، لأنَّ الرسم الجداري، مرسومٌ على جدراننا، مرسومٌ على جدارٍ تهدَّم فوق أهلٍ لنا. وبتهدُّم الجدار، بقي مرسوماً في وجداننا ورسولاً في كلماتنا؛ إلى أن يُستعادَ الجدار، وتُستعادَ الحقول، وتنفى الحاجة لطائراتٍ تلقي الطعام على أصحاب أول الحقول التي عرفت مهنة الزراعة في تاريخ البشرية قبل تسعة آلاف عام. ألا يليق بنا أن نحزن ونغضب، فقط، لأجل هذا؟
* روائي من سورية