قِيل الكثير عن عداوة شائعة بين النُّحاة والشعراء. ولنكُن واقعيين، ألم ينتصر الشعر في تلك الدعوى؟ وُصفَ الشعراء بأنّهم يحلّقون عالياً، أمّا النُّحاة فمَناطقة لا قلبَ لهم، استبدّ الأوائل بسِحر البيان فهُم العُشّاق والأمراء وفي أسوء الأحوال "قاب قوسين" من ذلك، ولم يتركوا للأخيرِين سوى لَكَماتٍ يُحصونها من عراك زيد وعمرو الذي لا ينقطع.
وفي التمثيل على تلك الشائعة، يذهب الكثيرون لجرّ اسمين كبيرين من كلّ فريق إلى النزال، واستحضار الخصومة بينهما. يستعينُ الفريق الأوّل بالمتنبّي فكأنّهم قد حَسموا المعركة قبل أن تبدأ، ولو تزوّد الفريق الثاني بصاحب "التذكرة" أبي عليّ الفارسي أو متنبّي النُّحاة إن صحّ التفخيم الذي لا يُنجي أبداً من صاحبنا الشاعر، وكأنّما المُواجهة حزن أبدي لا شفاء منه.
في حقيقة الأمر، كانت هناك عداوة حاضرة بين الاسمين، وترجع إلى مزيج ممّا يشجر بين الناس من سياسة وتحزّب، إلّا أنّ شيئاً لم يبدّدها مثل شعر المتنبي نفسه. خمسة أبيات قالها ذات يوم ابن جنّي على مسامع معلّمه أبي علي، فاستحال ذلك الكُره المشحون إلى محبّة خالصة. وعادةً ما تُستذكر تلك الأبيات بمتوالية مشوِّقة كلّما قال التلميذُ بيتاً حارَ المُعلّم في أمرِه ولمن يكونُ يا تُرى؟ وهكذا حتّى أُسقطَ في يده.
بغضّ النظر عن تلك الأسطورة وعددها السحري "خمسة"، لو أنّ واحداً منها فقط شفعَ لصاحبه قبل أن يقتلَه - في العالم الواقعي - قاطعُ طريق.