خالد الجبر.. الإبداع والتلقي في التراث الفكري العربي

22 يناير 2023
مقطع من عمل للفنان الجزائري يزيد خلوفي
+ الخط -

في كتابه "التلقي في التراث الفكري العربي" الذي صدر عن "سلسلة أطروحات الدكتوراه" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، يستقصي أستاذ النقد والبلاغة خالد عبد الرؤوف الجبر أطراف عملية الإبداع: المُبْدِع، والنص، والمتلقّي في التراث باستقلالية تؤسِّس لنظرية عربية في التلقّي، حيث تُمكَّن الخُلاصاتُ التي توصّل إليها من عَقْد مقارنة بين الرؤيتين: التراثية العربية، والحداثية الغربية.

ويقدّم الكتاب، وهو رسالة جامعية لنيل درجة الدكتوراه في التراث النقدي والبلاغي عند العرب، من "الجامعة الأردنية" عام 2002، خلاصة ما اشتمل عليه التراث الفكري العربي في إنتاج المعنى، وطُرق التلقّي واتجاهاته، وجدلية العلاقة بين الإبداع والتلقي.

يوضّح المؤلّف أن مفهوم المتلقّي في التراث لا يقتصر على من يتلقى النص بوصفه حاضرًا أمام المبدع، فالواقع يوجهنا نحو فهم أشمل؛ إذ إن هذا الصنف من المتلقّين لا يكون إلا حين يوجَّه الخطاب الأدبي إلى متلقٍ مقصود بعينه، ولا سيما في أساليب الإخبار والحوار والمجاذبة؛ بمعنى أن يكون هو المخاطب مباشرةً بالنص، أو هو المقول له. أما بقية النصوص فإنها موجهة إلى متلقٍّ افتراضي، وكأن المسألة افتراضية في كثير من جوانبها، ووسيلة إيضاح حاول النقاد بوساطتها شرح بعض خصائص الأسلوب، وليست مسألةً جوهريةً في صياغة الكلام.

رأى المؤلّف أن قاعدة الاختلاف والتبايُن أصل من أصول نظريّة التلقّي عند العرب

كما يلفت إلى أن الحديث عن اختلاف المتلقّين في تلقّيهم النصّ قد يكونُ بدهيًّا، لما قدّم التراثُ من حتميّة الاختلاف، بيد أنّ الحديث عن الاختلاف في حدّ ذاته لا يعني كونه مُسوّغًا إلا إذا أقرّ هذا التراثُ بقبوله، ولعلّ ظاهر الأمر في التاريخ يُفضي بالباحث إلى الحُكم خطًأ بانتفاء ذلك القبول؛ لكنّ السائد في النصوص يجعلُ من العسير اعتسافها، ويُلحُّ على الباحث بأن يتأنّى ويُدقّق قبل الإفضاء إلى النتيجة.

وقد يكونُ أوّلُ الشواهد الحيّة على ذلك الاختلاف في ما تتيحُه النصوصُ من آراء وأحكام وفُهوم، بحسب الكتاب، هو هذا الكمّ المتنوّع الذي لا سبيل إلى ردّه من الشروح والتفسيرات، والمصنّفات التي يُباينُ كلّ منها غيره حتّى في القضايا العَقَديّة، وهو دالّ - في ضمن ما يدلُّ عليه - على اختلاف الرؤى والتوجُّهات، وكونه نتيجةً "لتعدُّد الاجتهادات والتأويلات في التراث".

غلاف الكتاب

وبناء على ما تقدّم، يرى المؤلّف أن قاعدة الاختلاف والتبايُن أصل من أصول نظريّة التلقّي عند العرب، لأنّها ممّا يُمثّلُ جامعًا اشترك في الاتّفاق عليه أكثرُ منظّري التلقّي العرب نُقّادًا ومفسّرين؛ أو هي مُؤتلفُ الاختلاف. ولا ينبغي للباحث أن يُحكم تعليل هذه الظّاهرة بالبحث عن علل لها خارجة عن سياقها؛ إذ يكفي في تعليلها القولُ إنّ قبول الاختلاف في الفهم يُفسحُ مكانًا لكلّ تلك الفُهوم، وكأنّ كلًّا أراد أن يُحافظ على الإطار واسعًا لا ينفي منه غيره، لئلا يُنفى هو أيضًا منه.

ويشير إلى أن النصُّ يُمثّلُ مفهومًا محوريًّا في التراث الفكريّ العربيّ، وهذا المفهومُ ليس مقصورًا على كتاب الله وحده، بل ذلك شأنُه أيضًا في الأدب والنقد والفلسفة، وإنّ "تغايُر المناهج، واختلاف التوجُّهات النقديّة في درس النصوص الأدبيّة، ليس في جوهره إلا اختلافًا في تحديد ماهيّة النصّ وخصائصه ووظائفه". وقد يكونُ لهذا المفهوم أثرُه الجليُّ في تعدُّد الرؤى والمقاربات ومحاولة كلّ منها تبنّي نظرة خاصّة إلى النصّ، وأسلوب يُجسّدُ تلك النظرة في معالجتها إياه في إطار كلّيّ، أو جُزئيّ على وفق الجانب الذي يُوافقُ رُؤيتها.

ووفق هذه الرؤية، يطرح الكتاب إشكاليّة أُخرى تُجلّيها المُرونةُ التي توفّرُها محوريّة النصّ؛ ذلك أنّ لكلّ نصّ جوانب عدّة، وقد يكون أحدُها المتحكّم في فهم النصّ، بقطع النظر عن بُدُوّ هذا الجانب للقارئ في صورة ما لا قيمة له، أو كونه سطحيًّا ظاهرًا، أو كامنًا مُحتاجًا إلى التدقيق والنظر. وإنّ أيّ نصّ لهُ مستويات وأهداف قد لا تظهر للعيان دفعةً واحدة، وهو ما يقودُ إلى تعدُّد اتّجاهات تلقّي النصّ الواحد إذا تعدّد متلقّوهُ؛ إذ ينظُر كلّ منهم في النصّ إلى مستوًى مختلف أو جانب محدّد لا ينظُر إليه غيرُه. ولعلّه يُفسّرُ اختلاف موقف المتلقّي نفسه من نُصوص عدّة لمبدع واحد، أو لمبدعين متعدّدين؛ لأنّه إنّما ينظُر إلى مقدار ذلك المستوى، أو وضوح ذلك الجانب، في النصوص، ويستكشفُ بهدي منظومته القيميّة.

ويخلص المؤلّف إلى أن التراثُ الفكريّ العربيّ ينكشفُ عن وعي بقضيّة تبايُن اتّجاهات التلقّي، وعُمق دالّ على دقّة تفصيليّة؛ بما يُشبهُ أن يكون نتيجةً منطقيّةً لاشتغال تراكُميّ، وتقليب النظر في عناصرها كلّها: المُبدع، والمتلقّي، والنصّ، وأحوال المتلقّي، وزمن التلقّي، وتلقّي النصّ وحده، أو مقرونًا بغيره في سياق نقديّ ... إلخ، ويُمكنُ النظرُ إلى تنبُّه النقّاد لما يطرأ على ذوق المتلقّين من تغيُّر بوصفه جُزءًا من الصورة الكلّيّة لتبايُن اتّجاهات التلقّي.
 

المساهمون